عمار المفتي
إن تحقيق معظم أو كثير مما ورد في لائحة مطالب المحتجين الفرنسيين سيتطلب إجراءات وتطورات مواكبة؛ اختزلتها في ثلاثة:
١- زيادة كبيرة في إنفاق الدولة، ما سيؤدي إلى اتساع العجز في الموازنة العامة والدين العام؛ (يعادل حالياً ٩٨٪ من الناتج المحلي الإجمالي)، والذي سيتوجب تسديده عاجلاً أم آجلاً من قبل الشعب، عبر مزيد من الضرائب مستقبلاً، أو عبر خفض للخدمات الاجتماعية، ما سيتعارض -ولو بعد حين- مع مطالب المتظاهرين ذاتها.
هي إذاً سياسة إطفاء الحرائق، ترحّل فيها مواجهة «الأزمة» عنفاً أو سلماً إلى المستقبل؛ من خلال رفع الدين العام أو خفض الخدمات الاجتماعية والعامة الأخرى!
٢- نمو للاقتصَاد الكلي، تقوده الشركات الكبرى والصغرى والمؤسسات الفردية، والذي سيدفع بدوره عجلة الاستثمارات المحلية وتشغيل العاملين والعاطلين، فتنخفض البطالة (وتكاليفها عن كاهل الدولة) وتزداد مداخيل الأفراد والدولة؛ يتعزز بموجبه مجمل الخدمات العامة والرعاية الاجتماعية التي يطالب بها المحتجون.
لكن متطلبات نمو الاقتصاد الفرنسي تتعارض مع كثير من مطالب المحتجين، التي رفعوا فيها شعارات تطالب بزيادة الضرائب على الشركات والطبقات الأغنى… لماذا؟
لأن رفع الضرائب على الشركات وأصحاب الأعمال في فرنسا (وهي أصلاً مرتفعة مقارنة بمنافساتها الأوروبية كألمانيا وبريطانيا)، سيؤدي حتماً إلى لانخفاض في وتيرة استثمارات الشركات المحلية والأجنبية ما سينعكس سلباً على النمو الاقتصادي والتشغيل والبطالة معاً!
٣- تسهيل وتيسير قوانين العمل الصارمة والمتحيزة للعمال، التي تصعب على الشركات والمؤسسات الصغيرة زيادة التشغيل لارتفاع التكاليف وفق الأنظمَة العمالية المنفرة.
فالحد الأدنى للأجور في فرنسا يقارب ٩،٧٦ يورو لساعة العمل؛ وهو أعلى بـ١٠٪ من ألمانيا وبريطانيا، أما معدل البطالة في فرنسا ففي حدود ٩،٢٪، يقابله ٣،٤٪ في ألمانيا، و٤،٢٪ في بريطانيا، ولعل هذا يؤشر إلى مزاج وعقلية المجتمع الفرنسي، ناهيك عن الإشكال في هيكلية وبنية الاقتصاد، على ضوء التنافسية العالمية.
إن الإجراءات العاجلة التي اتخذها الرئيس ماكرون على وقع الاحتجاجات العارمة قد تنعكس إيجاباً على ٢٠٪ من الشعب مثل: زيادة الحد الأدنى لأجور العاملين بواقع ١٠٠ يورو شهرياً (حوالى ٦،٧٪)، خفض وإلغاء بعض الضرائب عن المتقاعدين، إلغاء الضرائب على أجور العمل الإضافي، تخصيص مزيد من المنح المالية للعائلات المعوزة، لكن مشكلة فرنسا الحقيقية تتمحور حول ضعف النمو الاقتصادي، وقلة الجاذبية للاستثمار الأجنبي، وإشكال البطالة المرتفعة، والحقوق العمالية القوية والمكلفة، والضرائب المرتفعة على الشركات؛ وهي بدورها محبطة للاستثمار والنمو والتشغيل.
نعم، تكاد تكون إشكالاً وحلقة شبه مفرغة، لم ينجح ماكرون بعد (ولا غيره سابقاً) في حلها، فهل سيفلح الحوار الوطني الفرنسي المنشود في إخراج فرنسا من تلك الحلقة المفرغة وتحقيق السلم الاجتماعي المنشود؟