مظاهرات غزة تفضح لقاء الأصوليات

5

حلمي النمنم

عقب عملية ١١ سبتمبر ٢٠٠١، وتفجير برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك وحالة الاستنفار التى تبناها الرئيس بوش الابن، أصدر المفكر الباكستانى الأصل «طارق على» كتابه المهم «صدام الأصوليات»، حاول فى الكتاب تفسير ما جرى وتأصيل الحالة تاريخيًا وسياسيًا.

أثار الكتاب وقتها جدلًا كبيرًا فى العديد من الدوائر الأكاديمية حول العالم، ووجد اهتمامًا يقترب من ذلك الذى استُقبل به كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق»، حين صدر سنة ١٩٧٨.

فى عالمنا العربى، عُقدت فى القاهرة وغيرها من بعض العواصم العربية عدة ندوات حول «صدام الأصوليات» وما حمله من أفكار.

لعدة سنوات، صار «صدام الأصوليات» أقرب إلى المانيفستو لدى بعض الدوائر الثقافية العربية، للتعبير عن رفض تنظيم القاعدة بأفكاره المتشددة وعملياته الإرهابية، وكذلك رفض المحاولات الأمريكية/الغربية فى الهيمنة على العالم العربى والشرق الأوسط كله.

حمل غلاف الترجمة العربية للكتاب صورة وجه الرئيس بوش الابن بعمامة ولحية أسامة بن لادن، كانت صورة الغلاف تلخص الموقف من الكتاب، ثم خفت الاهتمام به مع الوقت ودخلنا فى واقع وقضايا أخرى مع موجة «الربيع العربي»، التى فتحت المجال لتقدم الأصولية فى أكثر من بلدٍ عربى بدلًا من أن تدفع – كما كان مأمولًا – بالاتجاه الديمقراطى والمدنى إلى المقدمة، ثم جرت فى النهر موجات دافقة.

وجاءت مظاهرات أهالى غزة الأسبوع الماضى لتعيد فتح الملف مجددًا، لكن فى صياغة مغايرة قليلًا لما طرحه المفكر والروائى طارق على، يمكن أن نطلق عليها «تحالف أو لقاء الأصوليات».

المظاهرات قامت ضد الجوع والتخريب والتدمير الذى قامت به إسرائيل فى غزة منذ أكتوبر ٢٠٢٣، وضد حركة حماس التى – بنظرهم – قدمت كافة الذرائع لحكومة بنيامين نتنياهو لتقوم بكل ذلك التدمير، ورغم كل شيء ما تزال الحركة تصر على تقديم المزيد من الذرائع.

شاهدت وسمعت أحد المخاتير – عمدة بالتعبير المصرى – يرد على ذلك الذى اتهمهم بأنهم عملاء «الغرفة المظلمة»، قال المختار حرفيًا: «حماس قدمت فرصة ذهبية لبنى صهيون كى يدخلوا ويدمروا كل شيء»، وراح الرجل يعدد ما قامت به إسرائيل وهو غير مسبوق.

هناك فى عالمنا العربى من رأى منذ اللحظة الأولى أن ثمة تواطؤًا بين قادة حماس ونتنياهو، والشواهد لديهم عديدة، أبرزها أن إسرائيل منذ عهد إسحاق رابين ساعدت حماس كى تضعف صورة ياسر عرفات ومنظمة التحرير، باختصار ساعدوا فى اصطناع النقيض لمشروع أوسلو والسلطة الوطنية.

يُضاف إلى ذلك المبلغ – أكثر من ثلاثين مليون دولار – الذى كانت ترسله قطر إلى حماس شهريًا ويوزع بسماح من نتنياهو شخصيًا، بينما كان يضيّق الخناق على الشعب الفلسطينى عمومًا وعلى السلطة الفلسطينية فى رام الله ويحتجز أموالها، الأمر الذى جعل المعارضة فى إسرائيل تتهم نتنياهو بدعم حماس، خاصة أنه رفض اقتراح الأجهزة الأمنية بتوجيه ضربات لبعض قيادات حماس فى غزة، قبل السابع من أكتوبر.

لا أود الاسترسال فى بقية الشواهد، التى يسوقها هؤلاء، خاصةً أنه ليست لدينا معلومات موثقة، وإن كانت «الجرائم الخفية» دائمًا تفتقد الكثير من المعلومات الموثقة.

لكن الأهالى الذين عايشوا وتجرعوا المحنة كاملة وجدوا أنفسهم بين حافتى كماشة يلتقيان ضدهم نتنياهو وحماس معًا، الأول يريد أن يكون موجعًا فى التدمير ليدفع الأهالى إلى الرحيل عن الوطن، كما حدث فى حرب ١٩٤٨، فى دير ياسين وفى غيرها من قرى ونجوع فلسطين.

الطرف الآخر «حماس»، يتصرف وكأنه غير معنيّ بكل ذلك، يتصورون أن قيمتهم تعلو مع زيادة التضحيات وشدة التدمير، وأنه مع ارتفاع أعداد الشهداء والجرحى سوف يزداد تقدير العالم لهم.

فى النهاية، الأهالى هم من يتحملون ويدفعون كل الأثمان، وغيرهم فى العواصم الكبرى من الدوحة إلى إسطنبول وربما بيروت، وبينهم من يقيم فى الولايات المتحدة الأميركية ويضبط إيقاعه على الموجة الأميركية.

بعيدًا عن حديث التواطؤ، هناك تلاقٍ ضمنى بين حكومة اليمين المتطرف فى تل أبيب وبعض قيادات حماس فى دفع الأمور نحو الهاوية أكثر وأكثر.

فى البداية، تصور بعض قادة حماس أن الكرة كالعادة سوف تتجه إلى دول الجوار، تحديدًا إلى مصر والأردن، فى الأيام الأولى تم تشغيل ماكينة المزايدات بحق الدولتين، وتلك لعبة تُمارس بحرفية شديدة ضد البلدين منذ سنة ٢٠٠٦ وخلفهم تيار يردد المزايدات، فى الأيام الأولى سمعنا تشنجات وصرخات هنا: «افتحوا الحدود أمام إخوتنا»، وظهر من طالب الحكومة المصرية بفتح ممرات آمنة للفلسطينيين فى سيناء – طبقًا لاتفاقية جنيف – لحمايتهم من القصف، وهو نفس مطلب نتنياهو وحكومته.

خالد مشعل نفسه، فى بداية الأزمة، خاطب الأردنيين مطالبًا إياهم بالتحرك، متجاهلًا أن هناك دولة وحكومة.

فى المقابل، راحت حكومة نتنياهو تعمل على توريط عدد من الدول العربية، اتهموا مصر وقالوا إن هناك أنفاقًا فى سيناء تنقل العتاد إلى حماس، وتبين تهافت تلك الاتهامات، ثم راحوا يتهمون دولة قطر بأنها تمدهم بالمال، وكشف وزير الخارجية القطرى الكثير من الحقائق حول الأموال التى تقدمها شهريًا وكذلك استضافة عدد من القيادات الحمساوية لديهم.

مظاهرات غزة تعد تطورًا متوقعًا، فى البدء عبروا عن امتعاضهم وأثاروا مقولة «قادة الفنادق وقادة الخنادق»، فى التنديد بأولئك الذين يقيمون فى القصور والفنادق الفاخرة، بينما يتعرضون هم للقصف، لكنهم صابروا وتحملوا، ثم بدا لهم أن الحركة التى فتحت أبواب جهنم عليهم تواصل نفس الطريق دون أن تعبأ بهم ولا بمصيرهم، باتت عمليات التدمير تُمارس لذاتها بعدوانية وسادية غريبة من إسرائيل ومن قيادات حماس.

المظاهرات تسحب البساط من تحت حماس فى عدة أمور، أبرزها التفاوض مع الإدارة الأميركية، كل طرف فى التفاوض لا بد أن يمثل شرعية ما وباسمها يحمل تفويضًا.

حماس تمثل سلطة الأمر الواقع، وكان مفهومًا أنها صوت أهل غزة وتعبر عنهم. المظاهرات والهتافات هزّت ذلك التفويض إن لم تكن قد قوضته، وهنا سوف يصبح التفاوض الأمريكى، ومن ثم الإسرائيلى، مع تنظيم أو ميليشيا مسلحة.

الحق أن ما نعرفه هو أن التفاوض كان يتم على هذا الأساس، فلم يكن التفاوض على إقامة دولة فلسطينية والاعتراف بها مثلًا، ولا عن مستقبل فلسطين، بل عن هدنة طويلة الأمد قد تمتد إلى عشر سنوات، ونقاش عن مستقبل قادة حماس وضمان تأمينهم، وعدم ملاحقتهم فى أى مكان، وعدم الاقتراب من أموالهم.

سوف يكون موقف المفاوض الحمساوى أشد ضعفًا، ومسألة تعدد الأجنحة داخل حماس لن تكون مجدية. فى لحظة معينة، كان يمكن لهذا التعدد أن يكون مفيدًا، إذ يتيح اللعب مع أكثر من جهة، والتلاعب ببعضها، والقيام ببعض الأدوار لصالح هذا أو ذاك: إيران من جانب، وربما تركيا، فضلًا عن العالم العربى، بل ومع إسرائيل والولايات المتحدة نفسها.

بلد يمكن أن يقدم السلاح، وآخر يقدم المال، وثالث يوفر الحماية، وهكذا. التفاصيل فى ذلك كثيرة ومتشعبة، ونحن فى مصر عايشنا وعانينا من ذلك كثيرًا.

لكن تعدد الأوجه والأجنحة فى لحظات الانكشاف يكون مؤشر ضعف ودليل تفكك، ينعم به الخصم ويستثمره.

الأصوليات تقترب من التحكم فى العالم، المحافظون الجدد فى الولايات المتحدة يسيطرون ويتحكمون، ونحن نعايش طبعة متجددة منهم، تأمل أسماء الفريق المحيط بالرئيس دونالد ترامب، اليمين المتطرف يجتاح أوروبا، وهذا كله ينعكس على منطقتنا.

نتنياهو ونقيضه الظاهرى، حليفه العميق، ممثلًا فى حركة حماس، نجح فى أن يهديه كافة الذرائع لتقويض مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة، وأضعفوا معًا كل بديل فلسطينى.

لا أحد فى العالم يتذكر السلطة الوطنية، بل امتدت الذراع الإسرائيلية إلى داخل سوريا، على أبواب دمشق، ناهيك عن العبث فى لبنان، وغارات لا تتوقف يوميًا.

مظاهرات غزة تعلن رفضها هذه اللعبة المدمرة، الأهالى عمليًا راحوا ضحية التحالف الأصولى، ممثلًا فى حكومة الاحتلال وسلطة الأمر الواقع «حماس».

باختصار: الشعب يريد الحياة والإعمار.

مظاهرات غزة تطالب بالخروج من نطاق «حلف الأوغاد» ودخول الطريق الصحيح، طريق الاستقلال، وبناء الدولة، وإعمار غزة، وتوفير الحياة الكريمة والآمنة.

باختصار: الشعب يريد الحياة والإعمار. مظاهرات غزة تطالب بالخروج من نطاق «حلف الأوغاد» ودخول الطريق الصحيح، طريق الاستقلال، وبناء الدولة، وإعمار غزة، وتوفير الحياة الكريمة والآمنة.

التعليقات معطلة.