مقاهي قرية الهويدر .. ذاكرة أجيال

1

محمد السعدي

كتب كثيراً عن مقاهي العراق وتحديداً مدينة بغداد من قبل أجيال متعاقبة ومهتمين ورواد منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921م . لكن مقاهي القرى والاحياء والمدن وعلى الرغم من صخبها وتاريخها وشخصيات روادها ومعتركاتها السياسية والثقافية بقيت مهمولة إن لم تكن معدومة من الاهتمام وتسليط الاضواء عليها وعلى تاريخها وحكاياتها .
اليوم .. سأتوقف في تلك الصفحات من سيرة مقاهي قرية الهويدر في محافظة ديالى . أني ولدت في تلك القرية وعشت ، ولأنني ترعرعت بين تخوتها وجلاسها ومالكيها .قرية الهويدر ، التي ولدت فيها وقضيت ثلث عمري ، الذي تجاوز الستين بين درابينها الطينية وعلى تخوت مقاهيها العتيقة وبين أهلها ، هاجرتها مجبراً ، لكنها لم تفك عني على الرغم من مرور تلك السنيين وأنا في المهجر ، وما زالت تعيش في تفاصيل حياتي اليومية في عطر الذكرى والناس والدربونه والنهر والمقهى والارهاصات . إذ لايمر يوم الأ ويهاجمني شريط الذكريات عن طيبة ناسها ورائحة قداحها وطينة نهرها وميائه الرقراقة الزلال ولمعة نحاس المشاريب على أكتاف نسائها وهن عائدات من شريعة نهر ديالى محملات بمياهه وملفعات بتلك العباءات السود . شريط الذكريات يمر بي الى عتبة بيت تلو عتبة أخرى وسحنات وجوه ساكنيه وطيبتهم وميزاتهم وأسمائهم ، أواصل حلمي الى كل دربونه وعكد ، بدءاً من القلعة الى الدوزة الى منطقة الحمام أميل يساراً الى دكان أبي المجاور الى باب الحمام الاهلي الجانبي مدخل سيدات وشابات الهويدر المبجلات بالخجل والجمال الهويدراوي ، يطوف بي تلك الحلم الى بيتنا العتيق الفاصل بين عكديين الحميدية والجبان ، أهيم بحنين بين بيوت الحميدية ويلفعني نسيم هواء بستان أم الهري الى فروع أم البنات عابراً الى درابين الممدية وذكرى صديقي الشهيد ثامر البغدادي في جرينة المطلاع ، وصولاً الى فروع الجرد والفضوة المسكونة بذكريات الصبا ومروراً بمنطقة الجامع ومقهى كامل السعدي ( أبو عيسى ) ، الى الشيخ دكل وإطلالة شريعة نهر ديالى والعبور بالكفه الى قرية السبتية . في منطقة الحمام الملتقى اليومي للناس في ساحة مدورة ولها عدة مخارج ومداخل من والى القرية حيث موقف السيارات التي تنقل الناس الى بعقوبة فضلاً عن الطلبة والموظفين وعامة الناس سميت بالحمام لوجود وسط تلك الساحة الحمام الاهلي لاهالي القرية ، الذين يرتادوه صباحاً ومساءاً نساءاً ورجالاً . ويعود تاريخه الى منتصف القرن الثامن عشر في العهد العثماني كما يؤكد الباحثون والمطلعون على تاريخ القرية ويعد من اقدم الحمامات التي ما تزال موجودة حتى الآن في محافظة ديالى .

في منطقة ”الحمام ” مدخل قرية الهويدر يحيط بتلك الساحة أربعة مقاهي عاجة بروادها على طول الايام والاوقات في مدخل الساحة مقهى ”صاحب ” حيث تخوتها الخشبية المصنوعة من جريد نخيل قرية الهويدر تمتد على جهتي الشارع يتوسطها شارع مبلط ممشى للناس وطريق السيارات وفي وسط تلك الساحة أستهدف أهالي القرية بالمفخخات بعد الاحتلال الامريكي للعراق لكثرة تجمع الناس وسطها للاشغال والملتقى . مقهى صاحب كان روادها متنوعين خليط غير متجانس من عامة الناس تعج بهم أيام الصيف أكثر من الشتاء لضيق مساحة بناء المقهى الداخلي . وصاحب المقهى هو صاحب أبو فاضل هويدراوي النسب والأصل يعتمر الجراوية واللباس القروي ويساعده ولداه في خدمة الزبائن فاضل وجاسم .
جذور عائلية
مقهى الحجي إبراهيم الجولاغ في ركن الساحة الممتد الى مداخل القرية من جهة باب الحمام الخلفي المخصص للنساء . رواد تلك المقهى من الشيوعيين والمثقفين مما شكل تحول في عقلية الحاج إبراهيم الجولاغ وهو ذات الجذور العائلية تمتد مع البعثيين والقوميين . إضافة الى التواجد اليومي للحاج جولاغ كان عدنان حمدان أبو محمد هو وجهها المشرق في التعامل مع روادها بابتسامته المعهودة وهو يقدم الشاي اللذيذ والمخدر حسب الاصول المتعارف عليها ، وهو محور الحديث والنكته والهدوء في المقهى . كنا على تخوت تلك القرية نوزع جريدة طريق الشعب ونتناول أهم المستجدات على الساحة العراقية وفي تبادل الاخبار وتحديد مواعيد الاجتماعات الحزبية واللقاءات الاجتماعية ، وكان عدنان ”ابو محمد” شبه منسق للقاءات اليومية في معرفة غياب أحد ما عن الحضور أو الخروج من المقهى لأبلاغ الآخرين . حاول البعثيين عدة مرات أفساد هذه الاجواء من خلال تطفلهم على رواد المقهى ودس أنفهم بالصغيرة والكبيرة لكنهم فشلوا أمام تلك الروابط من الصداقات والعلاقات والرفقة .
مقهى ”دردي ” سميت بأسمه السيد دردي وأخيه ”صادق نفس ” اللذان هجرا الى إيران مع عوائلهم عام 1980م رغماً عنهم في قرارات مجحفة وشوفينية وغير مدروسه ولاعقلانية ، كان ثمنها غالياً على طبيعة النظام العراقي ومصيره والذي أعترف النظام لاحقاً بجريمته وأعتبرهاسهواً وخطوة غير مدروسة وردود فعل سلبية وساعة غضب ينتزعون بها الاف العوائل من بيوتهم عنوة ويرموهم على الحدودالإيرانية بعد أن أنتزعوا منهم فلذات أكبادهم وبلا مآوى ولا مؤون. دردي وأخوه نفس كانا ضمن هؤلاء الذين سيق بهم عبر الحدود وهما بأعمار مسنة ولا دخل لهم بما كان يجري خلف كواليس السياسة ، بعد تسفيرهم وفي الفترات الاولى كان الحزن طاغياً على روادها حزناً عليهم وتضامناً معهم حتى تخوت المقهى كانت خالية من ضجيجها اليومي ، أغلب رواد المقهى كانوا من الشخصيات الاجتماعية في القرية ، وكان في أحد زواياه برجاً للطيور وملتقى للمطيرجية بزعامة بلال وطالب أبو شنب ودعجول في تبادل يومي لاخبار حركة الطيور في القرية وفي البيع والشراء . وبقيت المقهى لسنوات طويلة تحمل أسم دردي وعادت الناس ترتادها ، لكنهم كانوا يضمرون في عيونهم الاستياء والرفض عن ما جرى لاصحابه الحقيقيين ، في إيران عام 1989م ألتقيت ببعض أولادهم ونقلت لهم مشاعر وأحاسيس أهالي قرية الهويدر جراء تعسف تسفيرهم .

مقهى أبو ستار تقع مقابل مقهى دردي في منطقة الحمام لا يفصل بينهما الا شارع القرية الرئيسي وأغلب روادها من البعثيين ومؤيديهم . أبو ستار شخصية شعبية دمث الاخلاق ويتفرد بعلاقة طيبة مع رواد المقهى على مختلف مشاربهم . المقهى داخل بستان ومحاطة بالاشجار وذات فناء واسع ودوماً في فصل الصيف مزدحمة بروادها وشارع المقهى يؤدي الى منطقة السوق حيث جامع الهويدر الذي فيه تجري مراسم عاشوراء كل سنة . في مطلع الثمانينات عائلة الشيباني مالكة البستان التي تتضمن المقهى قرروا تجريف البستان ومن ضمنها المقهى مما أجبرت الظروف العم ابا ستار أن ينتقل الى بداية السوق في طرف ورصيف بستان السيد ” غني الدولمه ورصف التخوت على جانبي الطريق وأنتقل معه أغلب رواد المقهى القديم . فمقهى أبو ستار الجديد مدخل الى سوق القرية .
طراز انيق
مقهى السيد ستار الكهوجي كانت مقابلة تقريباً الى مقهى أبي ستار الجديد . مقهى قديم ببناء وطراز أنيق وتخوت مريحة للجلوس ، لكن روادها قليلون ومن مختلف المشارب والمستويات ، الهدوء والسكون هما الطاغيان على أجواء جالسي المقهى . وتعد من المقاهي القديمة في قرية الهويدر .
مقهى صادق .. لاتبعد الا أمتار عن مقهى ستار الكهوجي تقع بداية ركن السوق المسقف التاريخي والقديم ، يدير تلك المقهى الاخوة الاربعة أولاد ملا إبراهيم أكبرهم صادق ، حمودي ، محمود ، طالب . بعد خروجي من العراق 1983م من ضمن ما تلقيته من أخبار أنها أنتفت حاجتها أن تكون مقهى وتحولت الى علوة للبيع والشراء وجزء أخر ضم الى محل أسطه محمد النجار .

مقهى كامل .. كامل عبد الامير السعدي والد المرحوم عيسى لاتبعد عن مقهى أبناء ملا إبراهيم الا أمتار حيث لايفصل بينهما الا مطعم كباب أموري الشهير على مستوى المحافظة وبرتاده الناس صيفاً وشتاً من خارج القرية لحسن سمعته ومذاقه الطيب . مقهى كامل تتميز بموقع ستراتيجي مهم مقابل ركناً مهماً جامع القرية وتتميز أيضاً بركنين مهمين للجلوس وتعج بروادها على طول المواسم وروادها من شرائح المجتمع المختلفة وتجمع شيبة وشباب من كل أزقة وفروع القرية .
مقهى هاشم عبيد ”أبو فيصل ” تعد من أقدم مقاهي القرية . تتصدر ركن مهم من سوق القرية قريبة على بيوت منطقة ”الشيخ دكل ” يرتادها كل فئات مجتمع القرية ليلاً ونهاراً ، تميزت بميزة مكانية لموقعها بجوار علوة الهويدر للخضار والفواكة التي يأتي بها الفلاحون من مزارع وشواطيء القرية ، إضافة الى فلاحي قرية ”السبتية ” يحملون محصولهم اليومي من خضار وفواكة عبر عبارة في ضفاف نهر ديالى تسمى ” الثريمة بعد رحيل عميدها هاشم عبيد الى رحاب الله تسلم شؤون المقهى أبنه فيصل وأخوانه.
مقهى علي قاو .. تقع في السوق القديم المسقف ، مقهى صغير وروادها محدودون وخاصون وبعد رحيل المغفور له علي قاو أستلم أدارتها ولده ” عزيز ” المكنى ب ”عزو ” وبمرور السنيين والايام تعاقب على ادارتها شخصيات أخرى من قرية الهويدر ، حتى لحظة تهديمها.
ظلت ومازالت مقاهي الهويدر وجه القرية للزائرين وأهلها على الرغم من الظروف الصعبة التي مرت بها القرية وما رافقها من تحولات وتغيرات شملت بنيتها السكانية من توسع وعمران . المرور على تلك المقاهي ومعالمها وسماتها وطبيعة روادها وميولهم السياسية وعلاقاتهم الاجتماعية هذاما تحتويه أحشاء ذاكرتي لاربعة عقود قد مضت في درابين ودهاليز السياسة ومعاناة الغربة وإحباطات التجربة .

التعليقات معطلة.