محمد شومان
يركز الخطاب السياسي العربي (القول والممارسة) في هذه المرحلة على مكافحة الإرهاب، لأسباب كثيرة أهمها حماية كيان الدولة، والحفاظ على وحدتها وسلامة أراضيها، علاوة على نفي علاقة الإسلام بالإرهاب. وتكتسب المهمة الأخيرة أهمية خاصة، لأن الجماعات الإسلاموية تمارس الإرهاب ضد مواطنيها وتُصدّره لدول العالم كافة، وتستنزف الرأسمال الرمزي للثقافة الإسلامية، وتسيء إليها وإلى صورة العرب والمسلمين على حد سواء.
من هنا تأتي ضرورة التأكيد على الوجه المتسامح للإسلام والثقافة الإسلامية التي تعد من أهم مكونات الشخصية العربية، وأحد مصادر الهوية والشرعية للأنظمة السياسية العربية المعاصرة. وقناعتي أن الإرهاب لا يهدد حكومات أو أنظمة، وإنما يهدد المواطنين أيضاً، لأنه يستهدف تدمير نمط حياة وصيغ متعددة للعيش المشترك، ومهما كانت مشكلات صيغ العيش المشترك بين الجماعات المختلفة أو بين الحكومات والشعوب، إلا أنه من الممكن تحسينها طالما لا تدّعي مشروعية دينية، وتعمد قيم ومعايير معاصرة ، لذلك فهي أفضل بكثير من نمط الحياة الذي جاءت به داعش والقاعدة، أو نماذج الحياة التي تعدنا بها النصرة أو الإخوان المسلمين.
ولا شك أن مكافحة الإرهاب هي مهمة عاجلة، ولها الأولوية ضمن ما يطرحه الخطاب السياسي العربي، لكن هذه الأولوية تفرض مشاركة المواطنين إلى جانب الحكومات في القضاء على الإرهاب، وأعتقد أن هذه المشاركة تتجاوز فكرة دعم الشعوب للحكومات أو تفويضها في اتخاذ كل الإجراءات ضد الإرهاب، وأنها تتطلب مشاركة حقيقية تكون قاعدتها الديموقراطية والاصطفاف العام القائم على الحوار والإقناع، من أجل القضاء على الإرهاب، والفكر المتطرف الذي يغذيه ويبرر وجوده.
إذن أولوية مكافحة الإرهاب لا تعني تأجيل الديموقراطية أو تأميم المجال العام، لأن التجارب التاريخية العربية المعاصرة تؤكد أن القمع والاستبداد يقود إلى ظهور جماعات تمارس التطرف والإرهاب، تارة بادعاء الحديث باسم الدين، أو باسم الوطنية أو الثورة، من جانب آخر فإن الحكم الفردي ورفض كل أشكال تمثيل الشعب يؤدي إلى ارتكاب السلطة الحاكمة أخطاء قاتلة لا تزال أغلب الشعوب العربية تعاني منها، كالتورط في حروب خارجية أو داخلية، وتبديد ثروات الشعوب وفرص تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية. وكان الخطاب السياسي العربي قد تعمد منذ مرحلة ما بعد الاستقلال تأجيل الديموقراطية استناداً إلى مبررات ضرورات بناء الدولة الحديثة وتحقيق العدالة الاجتماعية أولاً، أو بدعوى تحرير فلسطين وتحقيق الوحدة العربية أولاً، ثم هيمن على الخطاب العربي بعد هزيمة 1967 فكرة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»… واحتلت مهمة إزالة آثار العدوان الإسرائيلي الأولوية الأولى والمطلقة، وهي مكانة تستحقها بلا شك لأسباب وطنية وسياسية، لكنها للأسف جاءت على حساب متطلبات التنمية واحترام حقوق الإنسان والديموقراطية، على الرغم من أنه كان بالإمكان إحداث قدر من التوازن بين هذه الأولويات من خلال اتباع استراتيجية أكثر تركيباً تقوم على السير في خطوط متوازية، عوضاً عن التوجه الأحادي، والذي بات أحد مكونات بنية الخطاب السياسي العربي، والذي يركز على قضية واحدة ويمنحها الأولوية ويهمل بقية القضايا، أو يحبس نفسه بين ازدواجيات فكرية وسياسية مثل الاستقلال أم النهضة، والعروبة أم الإسلام، والديموقراطية أم العدالة الاجتماعية، وأحياناً الديموقراطية أم الوحدة العربية وتحرير فلسطين.
وأخشى أن يركز الخطاب السياسي السائد في هذه المرحلة على قضية واحدة هي محاربة الإرهاب ويهمل الديموقراطية وقضايا التنمية! والمفارقة أن هذا الخطاب يؤكد على شمولية الحرب على الإرهاب، بحيث تتضمن عدداً من المحاور، أهمها محاربة البطالة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتطوير التعليم، وتجديد الخطاب الديني، والمواجهة الأمنية. لكن الخطاب السياسي العربي يركز على المحور الأخير، ويمنحه في الممارسات الفعلية أولوية قصوى على حساب بقية المحاور، كما يسكت تقريباً عن الديموقراطية وضرورة تفعيل المجال العام، كإحدى وسائل مكافحة التطرف والإرهاب.
إن المواجهة الأمنية قد تكون لها الأولوية في هذه المرحلة التي تنشط فيها الجماعات الإسلاموية، لكن ينبغي الاهتمام بإشكاليات الظلم الاجتماعي، وتردي التعليم والخدمات العامة، علاوة على زيادة الطلب على الديموقراطية والمشاركة الشعبية، وأعتقد أن عدم اهتمام الخطاب السياسي العام بهذه الملفات، أو منحها أهمية متواضعة، يعرقل جهود المكافحة الأمنية، لأن انتشار الفقر والجهل والإحباط وغياب الأمل، يخلق البيئات الاجتماعية المناسبة لظهور وانتشار الأفكار المتطرفة والإرهاب.
ورسالتي هي تحقيق قدر من التوازن بين العناصر المكونة لاستراتيجيات مكافحة الإرهاب، والتي أعتقد أنها ستـــختلف من بلد عربي إلى آخر، بحسب ظروفه وقوة وقدرة كل من الدولة وجماعات التطرف والإرهاب فيه، وأتصور أن التوازن المطلوب لا بد أن يبدأ باحترام الحريات والتنوع والتعدد في المجتمع، واحترام القانون، وتفعيل المشاركة الشعبية، ليس فقط لأن هذه الحقوق أصبحت من المُسلّمات المتفق عليها في العالم المعاصر، وإنما لأنها أيضاً من شروط الحكم الرشيد، ومن الأسس الناجعة لمواجهة التطرف والإرهاب والاستبداد.
وربما تجدر الإشارة هنا إلى أن تجارب الدول العربية في مواجهة جماعات التطرف والإرهاب خلال أكثر من نصف قرن (منذ ستينات القرن الماضي) اعتمدت أساساً على الإجراءات الأمنية، والعصف بالحريات، والحكم الشمولي المستبد، ومع ذلك فشلت في القضاء على التطرف والإرهاب، والذي اتخذ صوراً وأنماطًا فكرية وتنظيمية عديدة، أهمها الجماعات الإسلاموية، التي ظهرت منها عدة أجيال ونماذج، بأفكار تبدو مختلفة، لكن مضمونها وتوجهها الفكري والسلوكي يكرر نفسه إلى حد كبير؛ وذلك بداية من جماعة الإخوان المسلمين، ومروراً بالجهاد والقاعدة وداعش والنصرة وغيرها.
القصد: لماذا لا نجرب الديموقراطية والحكم الرشيد في مواجهة التطرف والإرهاب، جنباً إلى جنب مع الإجراءات الأمنية، والتنمية، والعدالة الاجتماعية، والنهوض بالتعليم والثقافة والخدمات العامة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الإصلاحات الاجتماعية الواسعة التي قام بها عبدالناصر نجحت جزئياً في مواجهة الإخوان المسلمين في الستينات من القرن الماضي، وتجفيف البيئات الاجتماعية الحاضنة لها، لكن الناصرية لم تقض تماماً على الإخوان، فقد ظلت ثقافة التطرف وادعاء الحديث باسم الدين حاضرة، وظهرت جماعات إرهابية في ظل حكم عبدالناصر، وكانت أشد تطرفاً من الإخوان أنفسهم. وأعتقد أن الاعتماد على الإجراءات الأمنية والقمع وتأجيل الديموقراطية، كان من بين أسباب بقاء تلك الجماعات، ثم انتشارها الواسع بعد سنوات قليلة من رحيل عبدالناصر، وتغير السياسات الاجتماعية التي اتبعها، وكانت تقوم على تأميم السياسة مقابل تأمين الاحتياجات الأساسية للمواطنين، من خدمات وتعليم وطعام وفرص عمل.
خلاصة القول إن مواجهة الإرهاب تتطلب صيغة إستراتيجية جديدة، أكثر تركيباً، بحيث تعتمد على تعدد المسارات وتكاملها، بما لا ينفي الأولويات، وإنما يعززها ويضعها في سياق تاريخي ومجتمعي صحيح، وبحسب طبيعة التحديات وظروفها. من هنا فالإجراءات الأمنية يجب أن تتواصل، ولا يمكن تأجيلها، لكنها لا بد أن تسير بالتوازي والتعاون مع بقية العناصر المكونة لإستراتيجية مواجهة التطرف والإرهاب، ولا بد كذلك من البحث عن صيغ مرنه تفي بمتطلبات الأمن، ومتطلبات الحفاظ على المجال العام والسعي المتدرج للديموقراطية، لأني أعتقد أن الديموقراطية التي لم نجربها هي أحد أهم آليات مواجهة التطرف والإرهاب، وتحقيق الشفافية والحكم الرشيد.