مكانة أعياد الميلاد في عراق التنوع الحضاري

3

 
 
د.عبد الواحد مشعل
لا شك أن أعياد الميلاد المجيد تمر على العراق في ظروف وأوضاع خطرة أشعرت المسيحيين العراقيين بمسؤولية أخلاقية فرضت عليهم الإعلان بإلغاء احتفالاتهم السنوية بأعيادهم الدينية، تضامناً مع ما يمر به المجتمع من ظروف استثنائية، واحتراماً لدماء الشهداء ،وتعبيراً عن تضامنهم الكبير مع قضايا الشعب وإيماناً منهم بان قضايا العراق واحدة، وان جسد المجتمع واحد وان المكون المسيحي يشعر بواجباته الوطنية إزاء كل ما يحصل في المجتمع شأنهم شأن المكونات الأخرى ، ومن حيث المكانة الاعتبارية لهذه الأعياد فان المجتمع بأسره يرى أن الاحتفاء بها لا ينفصل عن تلك القيم الإنسانية التي يتحلى بها أبناء المجتمع في مختلف المواقف، فالاحتفاء بأعياد الميلاد إنما يعبر في أصله عن طبيعة الحضارة العراقية خلال التاريخ باعتبار الرسالات السماوية الثلاث إنما جاءت لتأكيد القيم الإنسانية نفسها. وهو ترجمة حقيقية لما يقره منطق الحضارة على اعتبار أن التنوع الثقافي في إي مجتمع إنما هو مصدر قوة له ، وأي إخلال به أنما يعبر عن الإخلال بقيم التعايش السلمي ،و تأخره
عنها . ان أعياد الميلاد المجيد في العراق ينبغي أن ينظر لها على أنها جزء من تضافر الجهود المجتمعية في توكيد التنوع الثقافي الايجابي، والذي يعكس هوية عراقية أصيلة ، لذا ينبغي النظر إليها على أنها تجسيد للقيم الإنسانية التي نجد أثرها في الكتب السماوية الثلاثة، مثلما يجسد تماماً ميلاد المصطفى(ص) القيم الإنسانية ذاتها، وان اختلفت طرق التعبير
عنها.
إن نبذ التفرقة والعنصرية، إنما هو منطق انساني لا يمكن لأحد إنكاره أو رفضه ، وبهذا المعنى فان الاحتفال بميلاد السيد المسيح عليه السلام ينبغي أن يتعدى حدود المسيحيين إلى النطاق الإنساني، مثلما ينبغي أن يتعدى ميلاد المصطفى (ص) حدود المؤمنين برسالته إلى النطاق الإنساني، لان الأصل في كلاهما، هو خدمة الإنسانية وتطورها وتقدمها،وأي تقاطع مع ذلك ،إنما يدخل في نطاق التفرقة العنصرية،وهذا ما يرفضه العقل العلمي رفضاً كاملاً.أصبحت أعياد الميلاد من المناسبات التي يحتفل بها ليس المسيحيون حول العالم فقط إنما أصبحت تقليداً سنوياً لمختلف المجتمعات الإنسانية لها رمزيتها ودلالتها لدى مختلف الشعوب فهي ترمز الى بداية عام جديد ، وبهذا فالعالم باكمله يحتفل برأس السنة الميلادية ، وبلادنا جزء من هذا العالم الذي يولي هذه المناسبة أهميتها ويعطيها اعتبارها الاجتماعي والثقافي .فضلاً عن أنها مناسبة دينية لها رمزيتها الدينية عند مختلف المذاهب
المسيحية .
لقد كان لمسيحيي العراق حضورهم الاجتماعي والثقافي خلال التاريخ فهم مكون أصيل من مكونات المجتمع العراقي يعتزون بوطنيتهم العراقية اعتزازاً كبيراً شأنهم شأن المكونات الأخرى، وقد اكسب هذا التنوع الثقافي الخلاق الشخصية العراقية سمات فعالة في الإبداع والمبادرة، اذ تميز العراقيون حول العالم بالذكاء والقدرة على التفاعل مع مختلف الثقافات منطلقين من قاعدتهم الثقافية القائمة أصلاً على التنوع الثقافي، ولهذا يعتبرون أعياد الميلاد تهمهم ويحتفون بها سنوياً، متواصلين ثقافياً مع العالم تعبيراً عن التفاعل الثقافي الانساني مع العالم والانفتاح عليه. لقد عاش المسيحيون العراقيون شأنهم شأن المكونات الأخرى ظروفاً قاهرة وعانوا من التطرف والإرهاب خلال السنوات القليلة الماضية ما جعل البعض منهم يهاجر خارج البلاد ، ما افقد البلد الكثير من الكفاءات والمواطنين الأصلاء ،إلا أنهم بقوا يعتزون بعراقيتهم ، وهم يعبرون عن ذلك في المناسبات المختلفة ومنها مناسبة احتفالات أعياد الميلاد، وعيد رأس السنة
الميلادية. عاش أبناء العراق خلال التاريخ متفاعلين ومبدعين ولم تظهر الانقسامات الدينية والعرقية والدينية بشكلها الذي هي عليه إلا بعد سنة2003، فمع إتباع النهج الديمقراطي، توهم البعض أنها تقوم على أساس الحصص بين هذه المكونات، بينما الأصل في الديمقراطية سيادة القانون وتساوي أبناء المجتمع أمامه، فليس هناك مواطن درجة أولى وآخر درجة ثانية ، إنما الديمقراطية تعني في احد معانيها أن يكون لكل مواطن صوت مسموع، وحرية التعبير والعمل وممارسة طقوسه الدينية والثقافية، وحرية المعتقد واحترام الكل للكل، وعلية ينبغي أن يتعلم الافراد الديمقراطية كسلوك من خلال التنشئة الاجتماعية، ابتداء من الشعور بالمسؤولية وتعويد أطفالنا على رمي القمامة في مكانها المخصص، وثقافة الحوار داخل الاسرة، واحترام خصوصيات الاخر مع الاشتراك معهم في المواطنة الحقة ، وهكذا كان المسيحيون خلال التاريخ يشعرون بذلك ويمارسون حقوقهم بكل حرية، لذا ينبغي أن نعتبر أعياد الميلاد بداية لهذا التعاون، وتنمية للثقافة المجتمعية القائمة أولاً على ممارسة الديمقراطية على أساس قيم المواطنة، وليس على المحاصصة القائمة التي تكرس الانقسام.
ان وظيفة احتفال العراقيين بأعياد الميلاد، وعيد رأس السنة الميلادية لا تقتصر على المسيحيين، إنما هي احتفالات العراقيين جميعاً بتنوعهم الثقافي المتفاعل وهو الذي يعطي الحياة معنى وقيمة ، فالتفاعل الاجتماعي بهذه المناسبة وغيرها يعزز الوحدة الوطنية، ويرفع من شأن العراقيين، ويجعل نسيجهم الاجتماعي انموذجاً إنسانياً يحتذي به ، ويعطي لهم فرصة تاريخية في إقامة الديمقراطية على أساس صحيح قائم على الانجاز والإبداع والتفاعل الايجابي الذي ينبذ كل اشكال العنف والعنصرية ، فالمجتمعات المتنوعة هي المجتمعات التي تقوم على أرضها الحضارات، فالتنوع له مكارزماته الخاصة التي تعمل على التفاعل والتوازن والاستقرار، ودائماً تنجح التنمية في المجتمعات التي تتصف بهذا الوصف من خلال التنافس الايجابي في الابداع، وعليه، فالتنوع هو الذي يفضي الى الابداع الخلاق وبناء علاقات حضارية راقية.
فلنجعل من أعياد الميلاد ومن كل المناسبات الدينية والوطنية خارطة طريق للسلام والإبداع والتماسك وإرساء ثقافة ديمقراطية تقوم على تكافؤ الفرص ونبذ كل اشكال التميز ، ما يبعث الطمأنينة بين أبناء البلد الواحد ويعدهم بغد مشرق يسهم الجميع فيه، وهم يرسون ثقافة السلام .

التعليقات معطلة.