تواجه مصيراً متأرجحاً داخل وخارج شارع المتنبي وتكابد الكساد وهجوم المقاهي وقسوة الضرائب
حسام السراي كاتب وصحافي عراقي
داخل شارع المتنبي يمكن أن نسجل صموداً نادراً لبعض المكتبات على رغم المتغيرات الصعبة (اندبندنت عربية)
ملخص
تبدّلات كثيرة طاولت سوق الكتب وعالم المكتبات، ترافقت مع تغيّرات واضحة في المزاج العام ومستوى التوجّه نحو القراءة والتثقيف، مقابل مظاهر ضاغطة تغري الأجيال الجديدة وتسحبها بعيداً من الكتاب والمعرفة.
لم يساعد كثيراً صيف العراق حتى وهو في خواتيمه، ولا سخونة الأحداث في المنطقة، على إجابة سؤال مسترخٍ يبحث في حال مكتبات بغداد وصمودها وسط عالم يتغيّر وحياة رقمية تطغى على الواقع وتؤثر في الرأي العام.
تبدّلات كثيرة طاولت سوق الكتب وعالم المكتبات، ترافقت مع تغيّرات واضحة في المزاج العام ومستوى التوجه نحو القراءة والتثقيف، مقابل مظاهر ضاغطة تغري الأجيال الجديدة وتسحبها بعيداً من الكتاب والمعرفة.
ربما أولى معالم هذا التباين الذي طاول واقع شارع المتنبي، وبالتحديد بعد إعماره قبل أربعة أعوام تقريباً، بدخول جمهور أوسع للشارع، غير مرتبط بالهوية القديمة له، حيث اقتناء الكتب ومتابعة الأنشطة الثقافية وما يوازيهما من حوارات ولقاءات كانت تجمع عدداً أكبر من الكتّاب ومنتجي الآداب والفنون.
ومع هذا التحوّل الذي طرأ على “المتنبي”، وبروز مهن وبضائع أخرى فيه- غير الكتاب طبعاً- أسهمت فعلياً في فرض مشهد مغاير ينتمي لثقافة الفرجة والتسلية بدلاً عن الفضاء الإبداعي ومجال التنمية الثقافية، مع الإقرار بأن هذه الفرجة أفسحت المجال أمام مواهب جديدة للتعبير والوجود بمعزل عن اشتراطات ومحددات فرضتها سابقاً بعض دوائر النخبة وحلقاتها.
“المتنبي” والتحدي الصعب
داخل شارع المتنبي يمكن أن نسجل صموداً لمكتبات وكتبيّين، بعضهم تجربته حاضرة منذ أيام النظام السابق وصولاً إلى أيامنا هذه، كما في مكتبة “الحنش” ومن في هذه القيصرية من الشارع، وآخرون لديهم تجارب جديدة في عالم الكتاب، وهم في مراحل متفاوتة من الانبثاق والاضمحلال، ومنه أن الأشهر الأخيرة شهدت إغلاق عدد من مكتبات “المتنبي” لمقارها، وهي “مقبرة الكتب”، “دار براء”، “أوركيد”، “بغدادي”، “درابين”، “قارات”، و”سنو”. في وقت تستعد بغداد لافتتاح أول مكتبة رقمية في الباب المعظم عند مدخل شارع الرشيد، وستحتضن في مبناها قاعات للمطالعة الرقمية ومكتبة صوتية ضمن هدف الأرشفة الرقمية للكتب.
IMG_20250731_140405.jpg
ثمة مظاهر ضاغطة تغري الأجيال الجديدة وتسحبها بعيداً من الكتاب والمعرفة (اندبندنت عربية)
الباحث والكتبي حسين سعدون الذي واكب المراحل المختلفة لشارع المتنبي، ومنه انطلق بالدعوة للقراءة عبر فيديوات وريلزات كان ينشرها على الـ”سوشيال ميديا”، يعتبر أن مكتبات الشارع أمام تحد صعب جداً على مستوى استمرار المهنة، ويتمثل ذلك بحسبه “في العزوف عن القراءة ووجود الكتاب الرقمي والإنترنت حيث الحصول السهل على المعلومة، وواقع ما بعد إعمار المتنبي إذ طرأ تغيير على أسعار الكلف من حيث الإيجارات والخدمات”.
سعدون يتوقع بعد سنة أو أكثر بقليل أن “هناك مكتبات ستغلق أبوابها لعدم القدرة على المنافسة مع محال القرطاسية مثلاً التي اكتسحت الشارع لأرباحها السريعة والكبيرة”. مثلما يشير إلى أن “عدد المكتبات الآن في واجهة شارع المتنبي وليس في أزقته لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة”.
حسين سعدون، الذي يواصل وجوده في الشارع عبر أحد أزقته، يقارن بين حال المكتبات والكتب قبل 2003 وبعدها، “سابقاً كان الكتاب الورقي هو السيد الأوحد ولا منافس له، وكانت هناك دورات من الكتب تباع بالآلاف والملايين، يضاف إليها متعة البحث عن الكتاب وسط الرقابة والمنع، فكانت الكتب السياسية والدينية تباع سراً، ولا يوجد منافس للكتاب قبل 2003، أما الآن فكل شيء تغيّر”.
ويتساءل سعدون عن دور المؤسسات الحكومية في دعم صناعة الكتاب التي من المهم أن تنظر إلى تجارب قريبة تحصل في مصر، على سبيل المثال.
هذه أيام للضرائب
خارج “المتنبي” هناك نوعان من المكتبات، قديمة ذات الوجود الممتد لعقود، في مقابل مكتبات جديدة طابعها عصري ولا يقتصر نشاطها على بيع الكتب، وإنما إقامة الورش واحتضان فعاليات متعددة.
مكتبة “النهضة” من المكتبات القديمة في بغداد، لصاحبها الراحل هاشم حسين الذي بدأ حياته من الرصيف إلى الكشك فهذه المكتبة التي صمدت وحافظت على سمعتها على رغم الظروف والمستجدات، “وتراجع قيمة الكتاب، وانحسار وجود المثقفين الذين كانت تصخب بهم الحياة العراقية في ستينيات القرن الماضي من أساتذة جامعات وأدباء، والذين انقرضوا على ما يبدو، إضافة إلى أن الأجيال الجديدة بعيدة من الكتاب والثقافة”، هذا ما جاء على لسان مدير المكتبة حالياً علي حسين عذافة.
اقرأ المزيد
مكتبات شارع المتنبي البغدادي “غذاء” للنار
“متنبي بغداد” يستعيد زمنه
البغداديون يقصدون “المتنبي” ليلا بعد إنارته وترميمه
المتنبي شارع ثقافي ومتنفس سياحي للأسر العراقية
عذافة يشرح كيف أن إصدار الكتاب في السابق كان صعباً ويمر بمراحل عدة، وهو ما اختلف كلياً اليوم، لأن النشر أصبح سهلاً أكثر. موضحاً “في الستينيات والسبعينيات وحتى التسعينيات، كان هذا الجزء من منطقة الباب الشرقي مركزاً ثقافياً، اليوم أصبح مكاناً لمحلات الإعلان الضوئي والحدادة”. هكذا يتحسر مدير “النهضة” على نهاية عصر المكتبات في شارع السعدون، منوهاً إلى أن أغلبها قام بتصفية أعماله والإغلاق نهائياً بعد 2003، مثل مكتبات “التحرير” و”العالمية” و”الدار الوطنية” و”الشرق” و”المدى” التي ألغت فرعها في الباب الشرقي.
“حال الثقافة في تراجع، علينا أن نعترف، و(النهضة) في تراجع كجزء من وضع أعمّ، ثم إن الإنترنت والتوصيل أثرا على المكتبات ووجودها، إذ أتاح ذلك فتح مكتبات في البيوت من قبل أشخاص بعيدين من الكتب؛ معتمدين على التوصيل الذي تشوبه مشكلات وغبن تعرضت له أنا شخصياً بخاصة في موضوع كون الكتاب مستنسخاً وليس أصلياً”.
بهذه الرؤية يرفض عذافة الواقع الحالي ومستجدات التوصيل، معززاً ذلك بالإشارة إلى أن “كثيراً من المكتبات في شارع المتنبي أوقفت أعمالها لهذا السبب أيضاً، بعد أن تغيّر الشارع كلياً وأصبح تطويره فرصة لفرض إيجارات مضاعفة أجبرت الكتبيين على المغادرة لمصلحة مطاعم ومقاهٍ، عكس ما كانت عليه الحال في عقود سابقة”.
يرى علي حسين أن زبائن “النهضة” الحاليين قلّة، “أبرزهم الكاتب غالب الشابندر، فهو زبون دائم منذ الستينيات، يوم كانت المكتبة ملتقى للشعراء والفنانين، تخيّل أن الجواهري حينما قرر مغادرة العراق زار المكتبة لتوديعها”. يعود إلى جملته التي يقولها بشيء من الجزم “يبدو أن المثقفين اليوم انقرضوا”، ويستنكر كيف أن مكتبة كانت تستقطب حسين مردان وأسماء أدبية وفنية أخرى، لا جمهور يرتادها الآن، بينما تُفرض عليها ضرائب كبيرة من دون أن تقوم الدولة بدعم المكتبات في الأقل من هذه الناحية”.
IMG_20250731_135728.jpg
تبدّلات كثيرة طاولت عالم المكتبات في بغداد، وترافقت مع تغيّرات واضحة في المزاج العام (اندبندنت عربية)
التوصيل، خدمة دخلت سوق العمل في السنوات الأخيرة، وتوسعت فيها شركات وانخرطت فيها أيادٍ عاملة لتشمل شتى أنواع البضائع؛ الملابس والعطور والساعات والأدوات المنزلية، ودخلت الكتب أيضاً حيز الطلبات التي يفضّل أصحابها البقاء في بيوتهم على ذلك الاهتمام بطقس زيارة المكتبات، ولأسباب عدة، ليست الازدحامات والمشاغل هي العوائق الوحيدة، وإنما مزاج حياتي جديد فيه تلبية لإيقاع الحياة السريع واندفاعات الأجيال الجديدة نحو مباهج أخرى ليس الكتاب والمعرفة في مقدمتها.
المكتبات خارج شارع المتنبي، هي أكثر من استثمرت خدمة التوصيل ووظفتها في مشاريعها، في ضوء وجودها بين أحياء عدة في بغداد، مثل الأعظمية وزيونة والمنصور والكرادة.
زرنا مكتبة معروفة في الأعظمية بجانب الرصافة وقرب مقهى له اسمه في بغداد اليوم، كان عدد رواد المكتبة عند الساعة الثامنة مساء لا يتجاوز ستة أفراد، بينما المقهى يزدحم بالعشرات، حاله كحال مطعم الشاورما البغدادي الذي يقع في الجهة الأخرى من شارع الضباط التجاري، وذلك مثال يمكن الأخذ به بين مكتبات محدودة العدد مقابل مئات من المقاهي والمطاعم.
أن نقترب من الناس
مؤسسة وصاحبة مكتبة “درج” ليان القدسي، تتفق مع اعتبار أن وجود مشروع مثل مكتبتها التي انطلقت عام 2018، فعل صمود، لكنه أيضاً “محاولة لإعادة تعريف العلاقة بالكتاب”.
في الطابق الأول من المبنى الذي توجد فيه “درج”، مطعم ومقهى يستقطب الشباب ويهتم بعرض اقتباسات تتحرك على شاشة ثابتة لكل من تشيخوف وسارتر ونيتشه وأعلام آخرين، في حين يؤدي السلم الخشبي إلى مشروع القدسي الذي تؤمن من خلاله بأن “القراءة ليست ترفاً، بل حاجة أساسية”.
الأشهر الأخيرة شهدت إغلاق عدد من مكتبات “المتنبي” لمقارها (اندبندنت عربية)
“ما نحاول فعله وتقديمه هو أن نُبقي الكتاب حياً عبر الجمع بين بُعده التجاري الذي يضمن استمرار المشروع، وبعده الثقافي التوعوي الذي يفتح الحوار مع أجيال ربما لا تضع القراءة ضمن أولوياتها، ولكنها تتجاوب وتتفاعل حين تجد مساحة تشبهها وتخاطبها بلغتها”، هذا ما تطرحه صاحبة “درج” عن تجربتها ومسعاها فيها.
فكرة وجود مكتبة خارج شارع المتنبي تنطبق على “درج”، وهو ما تعدّه ليان “خياراً لجعل الكتاب وتجربة زيارة مكتبة أقرب لحياة الناس اليومية، فضلاً عن محاولة الإسهام في زيادة رقعة تواجد المكتبات داخل المدينة”.
أما وسائل المكتبة في النمو والتطور؛ فهي وفق صاحبتها عبر طرق عدة، تتلخص في المحاولة أن تكون معاصرة عبر استخدام التوصيل، والمحتوى الرقمي، والأنشطة التفاعلية، والأفكار الجديدة. هذا كله دعا مؤسسة وصاحبة المشروع لأن تقول إن “الوعي والاعتراف بالواقع يعني تقديم تجربة قراءة مختلفة وأقرب لليافعين والشباب بشكلها العام، من خلال ربط الكتاب بالسينما، الموسيقى، الورش، الجلسات النقاشية”.
تجربة “درج” التي تزاوج بين السياقين العصري والمألوف في توفير الكتب، تجد أن مقتني الإصدارات عبر التوصيل نسبتهم 40 في المئة قياساً لزوار المكتبة الذين يشترون بنحو مباشر.