د. عبد الحق عزوزي
يشكّل المنتدى الاقتصادي العالمي الذي ينظَّم في مدينة دافوس المغطاة بالثلوج، والذي يمتدُّ لأكثرَ من نصف قرن، قِبلةً للحوار وتبادل الآراء حول التحديات العالمية المشتركة؛ وشارك فيه هاته السنة، أكثر من 300 شخصية عامة، بما في ذلك أكثر من 60 رئيس دولة وحكومة؛ كما جمع ممثلين عن مختلف القطاعات؛ حيث شارك في المؤتمر أكثر من 1600 من قادة الأعمال، بما في ذلك 800 من كبار الرؤساء التنفيذيين، وانضم إليهم 150 من المبتكرين العالميين ورواد التقنية الذين هم في طليعة الصناعات التحويلية. وهؤلاء تناولوا عدة مواضيع بما في ذلك موضوع الذكاء الاصطناعي الذي يَعِدُ بثورة حقيقية واستخدامات متعددة، غير أن الخبراء يحذّرون من أنه يطرح كذلك مخاطر مثل انتهاك الحياة الخاصة والخلل في الخوارزميات، وغيرها… تستدعي تنظيم هذا القطاع، إلا أنه يصعب القيام به في ضوء التطور السريع لهذه التقنيات.
وتحاول عشرات الدول الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي وضع تنظيمات لتطوير الذكاء الاصطناعي واستخدامه في مجالات عدة بما في ذلك المجال العسكري، محذرةً من «عواقب غير مرغوب فيها»، كتلك المخاوف المتعلقة بـ«مسألة الانخراط البشري»، إضافةً إلى «انعدام الوضوح على صعيد المسؤولية».
ونظّمت اجتماعات هذه السنة في عالم سماته الأربع هي التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض؛ فهناك خلل خطير وغير مسبوق في النظام الدولي، والغيوم البركانية تملأ جوه، وقتامته هي اليوم مضرب الأمثال في مشارق الأرض ومغاربها، وقد باتت سلبياته تنخر جذوره، وهناك حالة من الترقب مثيرة للقلق، والترقب في مجال العلاقات الدولية غالباً ما يخلق الالتباس السياسي والارتباك في الأولويات، والاضطراب في العلاقات متعددة الأطراف، وتكبيل النظرة والحركية الواقعيتين… والترقب يخلق الفوضى واللا أمن، ويولّد حالات من الالتباس والغموض، ناهيك بأنه يولِّد في بعض الأحيان الارتجالية في التحليل وعدم أخذ القرارات المناسبة.
لهذا حاول منظّمو منتدى دافوس عقد اللقاءات تحت شعار «إعادة بناء الثقة»؛ وهذه الثقة هي القاعدة الأم ليس فقط في بناء النظام العالمي، وإنما أيضاً في بناء المجتمعات والأوطان اقتصادياً وسياسياً؛ وإذا انعدمت أو تلاشت فصلِّ عليها صلاة الجِنازة؛ ولا يُظنَّنَّ ظانٌّ أنني أتحدَّث هنا عن مجتمعاتنا العربية، وإنما عن المجتمعات الغربية التي لم يعد مواطنوها يثقون بالأحزاب ولا بالديمقراطية التمثيلية التي عهدوها؛ فإذا أخذت مثال الفرنسيين، وغيرهم كثير من الغربيين، فهؤلاء لم تعد لديهم الثقة ليس فقط بأحزاب اليمين واليسار التقليديين، ولكن بكل الأحزاب، وهذا له أكثر من مائة مدلول في سوسيولوجية العلوم السياسية فيما يتعلق بالمجال السياسي العام، وآيديولوجية الأحزاب، والعمل السياسي، ومسألة الثقة بين الحاكم والمحكوم، والسياسات العمومية، وهلمّ جرّا.
والرسالة التي وصلت إلى الجميع أن نفاد صبر الطبقات المتوسطة والفقيرة في مجتمعات صناعية ديمقراطية قد يُحدث زلزالاً يصعب معه إيجاد حلول؛ فلا الوضعية الاقتصادية الأوروبية، ولا العالمية، يمكنها أن تلبّي رغبات فئات كبيرة من المجتمعات؛ زِدْ على ذلك أنه مع فقدان شرعية الأحزاب وممثليها فكل حل أو حلول ستقدَّم سيكون مصيرها الرفض؛ فرنسا مثلاً هي دولة مؤسسات وهذا ما يفسر أن الكثير من الاحتجاجات التي تعرفها البلدة منذ سنوات لم تُحدث زلزالاً كلياً، ولكن إلى متى؟ كل الخبراء الاستراتيجيين والاقتصاديين الذين أحدِّثهم يقولون لي إنَّ الدولة تعاني أزمة ثقة بين المواطن والدولة وإنَّ مرحلة الاضطرابات الاجتماعية والسياسية هذه ستؤثر بشكل بالغ في فرنسا، بل في كثير من الدول الأوروبية، وسيخضع المجتمع الفرنسي لعملية تحوّل مع إلغاء كثير من المكتسبات الديمقراطية والاقتصادية التي راكمها منذ قرون.
هناك الآن معادلتان: معادلة الفاعلين الاجتماعيين ومعادلة الفاعلين السياسيين، ولكنّ الإشكالية أن كل الفاعلين المجتمعيين والسياسيين ليسوا في الحركية المجتمعية ولا السياسية الصحيحة، وهم غارقون جميعاً إما في مطالب مستحيلة وإما في مستنقع الدفاع الظرفيّ عن النفس، وهنا الداهية العظمى.
ومسألة إعادة الثقة تُحيلنا أيضاً إلى تساؤل يطرحه الاقتصاديون: ما العمل أمام مدرسة تظل تدافع عن الليبرالية وأخرى تدافع عن الحمائية؟ وأيُّ تأثيرٍ على الاستثمارات في ظل المخاوف من انعدام الاستقرار؟ ونحن نطرح هذين السؤالين، نتذكر كيف تحولت دول مثل الولايات المتحدة بين عشية وضحاها من الليبرالية اللامتناهية إلى متدخلة حمائياً حفاظاً على مؤسسات الدولة من الانهيار، مما أدَّى إلى تغير الميكانيزمات الاقتصادية والمالية الدولية. فالأزمة المالية التي عاشها العالم مثلاً سنة 2008، والتي أصبحت أزمة اقتصادية، ليست الأولى في التاريخ وإنما هي الأولى التي يمكن عدّها كونية، وكان من أسبابها انعدام الثقة.
ففي بداية شتاء 2006 وجد كثير من الأسر الأميركية الأكثر فقراً، التي عُرضت عليها القروض العقارية الرهنية، نفسها غير قادرة على سداد ديونها. وبدأت البنوك في مصادرة الممتلكات، كما بدأ الملاك المثقلون بالديون في جوٍّ تنعدم فيه الثقة ببيع ممتلكاتهم قبل أن تصادرها البنوك، مما أدَّى إلى عدم التوازن بين العرض والطلب في سوق العقار وانخفاض الأسعار. وهكذا، وجدت البنوك ومضاربيها «الانتحاريين» أنفسهم في مساكن مصادَرة وغير قابلة للبيع، وباستثمارات لا قيمة لها، إضافةً إلى مشكلات السيولة؛ وفي عام 2008 تحولت أزمة الرهون العقارية إلى أزمة بنكية.
كان النظام المالي الأميركي على حافة الانهيار في أكتوبر (تشرين الأول) 2008 بسبب انعدام السيولة وانعدام الثقة. وقد جرى إنقاذ البنوك وشركات التأمين الأميركية عن طريق التجنيس والوعد بالمال العمومي غير الموجود، وأصبح الدين الخاص عمومياً. عَبَرَت الأزمة من الولايات المتحدة لتصل إلى البنوك الأوروبية، وهو ما جعل كل الدول ومن دون استثناء تتغاضى عن سياساتها الليبرالية وتفرض قواعد حمائية لخلق الثقة الكفيلة بإنقاذ اقتصاداتها.