من أحمد الچلبي إلى جو ولسون… دائماً العراق على لائحة التحرير

5

 

 

منذ لحظة تأسيس الدولة العراقية الحديثة، لم يُسمح للإرادة الوطنية بأن تُشكّل مسارها الكامل. تاريخ العراق الحديث هو سجل طويل من التدخلات، الوصايا، والانقسامات التي جعلت الشعب خارج دائرة القرار. لم تُبنى الدولة على إرادة العراقيين، بل على مصالح الآخرين، لتصبح السيادة شعاراً بلا مضمون، والقرار الوطني حكراً على الخارج. هذه الحقيقة التاريخية لا تتوقف عند الماضي؛ فهي تتواصل اليوم، لتوضح أن أي شعار يُرفع باسم “تحرير العراق” من خارج حدوده، مهما بدا براقة، لا يمكن أن يتحول إلى خلاص حقيقي إلا إذا انطلقت القوة والسيادة من الداخل العراقي ذاته.

قبل عام 2003، لم يبدأ المشهد العراقي بالغزو مباشرة، بل بدأ بشعار . شعار “تحرير العراق من نظام البعث”، الذي حمله أحمد الچلبي، ونجح من خلاله في استدعاء القوة الأمريكية إلى قلب العراق. النتيجة لم تكن إسقاط نظام صدام فقط، بل إسقاط الدولة العراقية نفسها: مؤسسات، جيش، سيادة، وتوازن اجتماعي، وكذلك توازن اقليمي . الامر الذي فتح أبواب البلد على مصراعيها لكل أنواع التدخل والخراب المنهجي الذي ما زلنا نعيش آثاره وتداعياتة ، حتى اليوم .

الأخطر في تلك التجربة لم يكن التدمير المادي وحده، بل الكذبة السياسية الكبرى. أمريكا التي جاءت بشعارات “الديمقراطية والتحرير وبناء الدولة” سرعان ما تخلّت عنها، وتركت العراق ساحة نفوذ بلا حسيب ولا رقيب، لتملأ إيران الفراغ. علما ان إيران التي خاض العراق ضدها حرباً ضروساً استمرت ثماني سنوات، لم ينجُ منها بيت عراقي واحد؛ دمٌ عراقي سقط في كل مدينة وقرية، سنياً كان أم شيعياً، كردياً أم مسيحياً. ومع ذلك، تحوّل العراق بعد 2003 إلى ساحة مفتوحة لنفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي بفعل وتعاون امريكي، وليس بقدراتها الخبيثة التي تهشمت على صخرة الصمود ووحدة الشعب العراقي .

اليوم، وبعد أكثر من عشرين عاماً، يعود الشعار نفسه تقريباً: “تحرير العراق”. الفرق هنا أن العدو تغيّر من صدام إلى إيران، وأن من يرفع الشعار ليس صوتاً وطنياً عراقياً، بل نائباً أمريكياً هو جو ولسون. وهنا تكمن المعضلة الحقيقية.

التاريخ العراقي القريب علّمنا درساً قاسياً: كل “تحرير” لا يقوده العراقيون أنفسهم، ولا ينطلق من مشروع وطني واضح، ينتهي بكارثة أكبر من التي سبقته. أحمد الچلبي لم يكن وحده المسؤول، لكن تجربته أصبحت رمزاً لاستدعاء الخارج تحت لافتة الخلاص، فكانت النتيجة محنة تاريخية مفتوحة، تتعقّد مع الزمن بدل أن تُحل.

السؤال اليوم ليس عن نوايا جو ولسون، ولا عن صدق شعاره، بل عن الثمن. ماذا ينتظر العراقيون بعد هذا الشعار؟ هل ينتظرهم صراع أمريكي – إيراني جديد يُدار على الأرض العراقية؟ هل ينتظرهم “تحرير” يُفكّك نفوذاً ليقيم نفوذاً آخر؟ أم إعادة إنتاج مشهد 2003 بصيغة مختلفة، تُستخدم فيه معاناة العراقيين مرة أخرى كورقة تفاوض بين القوى الكبرى؟

الواقع واضح: الوضع القائم في العراق ليس خياراً، ولا يمكن الدفاع عنه، ولا يصلح أن يستمر. فالدور الإيراني، ومن يمثله من قوى وتبعيات عراقية، كان ولا يزال كابوساً على الدولة والشعب، صادر القرار الوطني وجرّ البلاد إلى صراعات لا مصلحة لها فيها، وحوّل السيادة إلى شعار فارغ.

وكان من الممكن، لتفادي هذه المحنة المتكررة، أن ينسج صانع القرار الأمريكي تحالفاً سياسياً مع شخصيات وطنية عراقية معروفة بنزاهتها، ويقدّم دعماً مباشراً منها لتكون الصوت الوطني الحقيقي في عملية التغيير المنشود . 

ان غياب هذا الفعل وعدم ابرازة وتسليط الضوء عليه اعلامياً 

جعل العراقيين أكثر ضياعاً وتخبطاً، كما هو واقعهم اليوم .

علما ان رفض هذا الواقع لا يعني القبول باستبداله بوصاية أخرى، ولا تسليم مصير العراق لشعارات تُرفع من خارج حدوده.

التغيير ضرورة، غير أن أي تغيير لا تقوده قيادة وطنية عراقية مستقلة، سيعيد إنتاج المأساة نفسها. بين هيمنة إيران وخطر الوصاية الأخرى، يبقى الحل واحداً: مشروع وطني عراقي يستعيد الدولة ويُنهي كل أشكال التبعية. العراق لا يحتاج من يرفع شعاراً في برلمان أجنبي، بل من يستعيد قراره في بغداد. فبدون قيادة وطنية، لن يكون ما ينتظر العراقيين بعد شعار جو ولسون سوى نسخة أخرى من محنة 2003… بعنوان جديد، ووجع من طراز آخر .

التعليقات معطلة.