من كان يصدق أنه لا تزال للشعوب كلمة باقية وصوت مسموع، بعد سنوات عجاف من الثورات المضادة المحمولة عبر براميل النفط وأنابيب الغاز وسيارات الدفع الرباعي القادمة من عمق صحراء العرب لتدمر ثورات الشعوب؟
من كان يصدق أن بعض حكام العرب اليوم، وبينما تقرأ هذا المقال، يتحسسون رقابهم ورؤوسهم؛ خشية أن تأتيهم غاشية الموت على يد الشعوب أو طائفة من الشعوب.. لا يهم، المهم أنهم جميعا الآن في حالة قلق غير مسبوق، بعد أن ظنوا، وبعض الظن إثم، أنهم هزموا شعوبهم ونالوا منهم.
هل كان يتوقع الذين أيدوا عبد الله صالح وناصروه ضد ثورة شعبه، أنه سيأتي يوم يرونه فيه جثة هامدة يتناول عليها شباب الحوثيين طربا وفرحا وهم -أي الحوثيين- صنيعة علي عبد الله صالح لضرب الإخوان المسلمين في اليمن؟
هل استطاع السعوديون والإماراتيون حماية رجلهم أو الدفاع عنه، وهو الذي خرج قبل بضعة أيام متقربا إليهم ومتصالحا معهم؟ هل نفعوه أو أنقذوه؟
قل ما شئت في الحوثيين، وقل ما تريد عن إيران وتدخلها في المنطقة، ولكن قبل ذلك اسأل نفسك ماذا فعلت أنت بحلفائك من السنة؟ كيف أقصيتهم ونلت منهم وحاصرتهم حصارا مريرا، وأعني هنا الثوار السنة في اليمن؟
يمكنكم أن تراهنوا على قوتكم، وعلى أموالكم السائلة والعابرة للحدود في طائرات خاصة وسفن خاصة، ولكنكم لا تملكون قوة ولا إرادة الشعوب، ولن تستطيعوا هزيمتها ولو طال الزمن.
مات علي عبد الله صالح كميتة القذافي، وكلاهما علا في الأرض. وهكذا يكون مصير كل طاغية باغ، ولو استند لأعظم قوة في العالم، واعتقد أن قطار الشعب وزمنه قد ولى.. كما قال عبد الله صالح قولته المشهورة: “فاتكم القطار”.
من الذي صنع الطواغيت والمستبدين، ومن موّلهم، ومن آواهم، ومن عالجهم، ومن ناصرهم سوى المال الخليجي، والمكر الإماراتي، واللوبي الصهيوني، والغطاء الأمريكي، والإسناد الأوروبي، فرنسيا كان أم بريطانيا وألمانيا؟
وبينما يدور الحديث في مصر عن الجنرال شفيق الذي تم شحنه في طائرة خاصة إلى مولاه ورفيق دربه في الانقلاب والتنكيل بالشعب، اليوم لم يعد للحديث عن الانتخابات معنى ولا للانقلاب على الانقلاب قيمة.. اليوم ارتفع وسيرتفع سقف المطالب من جديد، ولن يكون شعار الثورة العربية هو عيش حرية وعدالة اجتماعية فحسب، بل ثورة حقيقية على حكم العسكر وحكم رجال الأعمال ووكلاء الاستعمار..
ثورة تعيد الأرض لأصحابها، والقرار لأهله، والثروات للشعوب..
ثورة لا تبقي للدولة العميقة ذيولا تتلاعب بالشعوب من جديد.. ثورة تأتي على كل جيوب الاستعمار وكانتوناته المتناثرة في أرجاء وطننا العربي الحبيب..
ثورة تعيد الأمور إلى نصابها، فتجعل من الحاكم خادما، وتعيد الشعب إلى مكانه سيدا كما كان..
مقتل علي عبد الله صالح سيظل ماثلا في أذهان الحكام المستبدين، ولن ينسوه ولو تجرعوا مثل ماء المحيط خمرا، ولو تعاطوا كل أنواع المخدرات والمهدئات والمسكنات. سيظل مشهد علي عبد الله صالح يؤرقهم ويقلق مضاجعهم، ويذكرهم بأن نهايتهم لن تختلف كثيرا عن نهايته، فهم كلهم في الظلم والاستبداد سواء.. فلماذا سينعم الله عليهم بميتة الشهداء؟
كنت قد شرعت في كتابة مقالي الأسبوعي هذا، ونويت كتابته عن طريقة صيد أحمد شفيق وإعادته مشحونا في طائرة خاصة إلى السيسي كي يعلمه الأدب ويعيده إلى جادة الصواب، مستنكرا عليه خروجه عن طابور الانقلاب ونيته للترشح أمام قائد الانقلاب.. لكن بعدما شاهدت جثة علي عبد الله صالح، قلت في نفسي: وهل سيغني مكر السيسي وجرائمه عنه شيئا إذا ما قررت الشعوب الانتقام؟ هل سينفع السيسي كل أزلامه وكتائب إعلامه؟ أم سيرقصون طربا على جثته ويتحولون من جنود إبليس إلى طبالين للثورة حين تقوم؟
لست منتشيا برؤية جثة حاكم ظالم أذاق شعبه الذل والهوان، وجاء يوم مذلته على رؤوس الأشهاد، لكنني أكتب للتاريخ لأبنائي وأحفادي أنني عشت يوم فرار زين العابدين بن علي، ويوم خلع مبارك، ومقتل القذافي، وقصف رأس علي عبد الله صالح.. كما أنني شاهدت كيف علق صدام على أعواد المشانق، وحكام العرب يتفرجون صبيحة يوم العيد.. ولعلي أعيش لقادم أيام أرى فيها رؤوس أقوام قد أينعت وحان وقت قطافها، ولعله قريب إن شاء الله.
لست متوهما، بل متفائلا وواثقا في سنة الله في خلقه. فبعد خمس سنوات أو أكثر من الثورة المضادة، تعود الشعوب لتنتفض من جديد، وتعلن أنها قادرة، وإن بدت منهكة وصامدة، وإن بدت متعبة.
لقد شكرت الله يوم شاهدت مقتل شاوشيسكو رئيس رومانيا، وشكرت شعبه الذي قضى عليه على مرأى ومسمع من العالم.. واليوم الشكر موصول لكل شعب حر أبي يثبت أنه أقوى من حكامه وأعظم من جلاديه.
قد يتأخر النصر الحاسم، لكن الثأر قد يريح الصدور، ويعيد شحن بطاريات المقاومة والثورة معا.