فيصل العساف
يعيد الكثيرون الفضل في نشوء مفهوم السيادة القائم حديثاً إلى أعلام، بينهم الفيلسوف والفقيه الفرنسي جان بودان، الذي عرفها بأنها «سلطة عليا على المواطنين والرعايا»، على رغم كونها كفكرة برزت مع بزوغ نجم البشرية، التي احتاجت إليها كنوع من التنظيم يحفظ الحقوق. التطور الفلسفي أو القانوني للسيادة، وعلاقتها أو الاختلاف بينها وبين السلطة، مكّن الباحثين، مع تنامي العلاقات الدولية من التفريق بين داخل يطلق يدها في تحرير مبادئها، وصولاً إلى أحقية نقضها بالثورة حال التعدي على أحد قيودها، بحسب بودان، وخارجي يلزم باحترام المعاهدات والاتفاقات التي يعقدها مالك عصا السيادة، المتنفذ بها.
في قطر، ابتدع «فلاسفتها» معنى جديداً للسيادة، ضاربين عرض الحائط بتعاليم جهابذة أمثال ابن خلدون وبودان وجون لوك وجان جاك روسو وقبلهم أرسطو وأفلاطون، بما يلبي حاجات جنون العظمة الذي يكتسح مجاميع «السادة» فيها، قطريّهم والوافد إليهم، مانحاً إياهم الحق الكامل في إرباك شؤون الآخرين، ليس داخل قطر فحسب، بل حتى خارجها. وعلى أولئك الآخرين تقع مسؤولية الانصياع التام لمقررات حلم الدولة العظمى المزعومة ورغباتها، وإلا فإن الطامح إلى التفكير خارج صندوق نهم التـــوسع القطري، المتمرد على وهم زعامتها، إنما يحكم على نفسه بتجرع مرارة تبعاتها، بعد أن ألغت حدود التعايش السلمي، عندما سئمت بتطلعاتها من تكاليف حياتها، وأضحت بها الحال تردد بيتاً للشاعر الفلسطيني الراحل عبدالرحيم محمود، مع التصرف: فإما حياة تسر «الحمدين»، وإلا ممات «يسرّ» العدا!
قطر الانقلابية لم تبق لدى من اختنقوا بتجاوزاتها ما يمكن اعتباره بصيصاً للأمل، يحفظ لها ودّاً قديماً، ويمنحها مساحة، ولو قليلة، من الاحترام. لقد قطعت قطر بمحض إرادتها -بكل استكبار- حبال الود بالجميع، تبعاً لنظرتها المادية المحدودة، التي تقوم على اعتبار المال كل شيء، الأمر الذي أعاد إلى الذاكرة سيناريوات سينما الثمانينات العربية، وأفلام المقاولات تحديداً، ثروة طائلة تهطل على جيب مراوغ، طغيان حتمي، وعواقب وخيمة تشفي صدور قوم «متضررين».
الحديث عن سيادة قطر الذي تسوّق سلطاتها إلى إمكان امتهانه، من الدول الأربع التي نأت بنفسها عنها، السعودية والإمارات والبحرين ومصر، يلغي في جانب منه أحقية تلك الدول في تقرير مصيرها، بعيداً من سياسات قطر الرامية إلى كيل الاتهامات بالصراخ والمزاعم الواهنة، مع تغييب ممنهج لحقيقة النزاع القائم، الذي سد الباب -فقط- أمام تعدياتها، مستمداً من الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة ما يحفظ السلم والأمن، في الأوضاع التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة، كقطع الصلات بجوانبها كافة، وأيضاً قطع العلاقات الدبلوماسية. إن الدول الأربع ليست حريصة على إنهاء الأزمة، بمقدار حرصها على حل المشكلة واقتلاعها من جذورها، مهما كلّف الأمر، فتلك الدول ليست مستعدة اليوم -في ما يبدو- لإضاعة الوقت وتبديد الجهود في نقاش مواضيع جانبية، بما فيها السيادة بمفهومها القطري، كما أنها ليست على استعداد لسداد الفواتير الباهظة التي كلفت قطر مسؤولية الشعور بعدم القدرة على التراجع.
أخيراً، ينبغي التنويه بأمر غاية في الأهمية، على القطريين استيعابه جيداً، وهو أن صورة دولتهم تتراوح في أدنى مستوياتها اليوم. فليتأكدوا من وزير الخارجية محمد بن عبدالرحمن، الذي جاب الدنيا في رحلات مكوكية تستجلب مواقف داعمة، كانت نتيجتها من دون استثناء مطالبتكم بالالتزام بمخرجات قمة الرياض العربية الإسلامية – الأميركية، ورد مزاعمكم خائبة إلى الوساطة الكويتية، التي لعبت دوراً بارزاً في منح قطر القدرة على المراوغة أطول وقت ممكن، قبل أن تفشل في شكل نهائي بالتواصل المباشر مع القيادة السعودية، والمواقف المترددة لتميم، التي ووجِهت بحزم يقضي على كل محاولات الالتفاف، فإما الوضوح والنوايا الصادقة لتجفيف منابع الخلاف، أو مزيد من التبعات ستتكبدها قطر، قبل أن تستفيق على أي حال.