في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان الشارع العراقي ينبض بالحياة الثقافية والفكرية، رغم تقلبات السياسة وقسوة الأنظمة. لم يكن الانتماء السياسي عائقًا أمام التنوير، بل على العكس، كان المحرك له. فالحزب الشيوعي، على سبيل المثال، لم يكن مجرد تنظيم سياسي، بل منصة لنشر ثقافة القراءة والنقاش والنقد. لم يكن كل العراقيين شيوعيين، لكن تأثير الشيوعيين في جعل الكتاب حاجة يومية لا يمكن إنكاره.
لم تكن هذه الروح الثقافية حكرًا على جهة واحدة؛ فقد كان البعثيون والناصريون والقوميون يتنافسون في اقتناء الكتب، وتنظيم الندوات، وطرح الأسئلة الكبرى حول المصير، والهوية، والتاريخ. الثقافة، يومها، لم تكن ترفًا، بل وسيلة للمنافسة، وفضاءً عامًا يعبّر فيه الجميع عن آرائهم بلا خوف كبير، نسبيًا، من الملاحقة الفكرية. ولم يكن ذلك يعني غياب القمع أو الرقابة، لكن الحياة الثقافية كانت حيوية لدرجة أنها تحدّت هذه القيود.
ثم جاء التحول الكبير. بداية من حقبة الحزب الواحد، حيث ضُيقت المساحات الفكرية، وحوصرت الثقافة داخل حدود الخطاب السلطوي. ثم جاءت الكارثة الكبرى بعد 2003، حين فُتحت الأبواب لخراب مزدوج: احتلال خارجي أزاح الدولة، وصراع داخلي جعل الدين والطائفة بوصلة التفكير. بدلًا من الانفتاح، ساد الانغلاق. وبدلًا من التنوير، عمّ التجييش الطائفي.
انزلق الشارع العراقي تدريجيًا من فضاء الكتب والمكتبات إلى مجالس التحشيد والخطابات الشعبوية. غابت النقاشات الفلسفية، وتراجعت مفاهيم مثل النقد الذاتي والحرية الفردية، وحلّت محلها لغة الكراهية والفرز الطائفي. تحوّل المثقف إلى شخصية مشوشة أو مهمّشة، وصعدت على أنقاضه شخصيات دينية أو حزبية تستمد شرعيتها من الانتماء لا من الفكر.
ولم يكن هذا الانحدار نتيجة الداخل وحده. فالإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، والخوارزميات التي تغذّي العزلة الفكرية، ساهمت جميعها في ترسيخ واقعٍ من الانغلاق والجمود، لا مجال فيه للنقاش الحر أو الرأي المستقل. حتى النخب التي بقيت داخل البلد، غالبًا ما اختارت العزلة أو الحذر المفرط، مما ترك فراغًا احتلته الأصوات المتطرفة.
ومع ذلك، لا يزال هناك بصيص أمل. فالمجتمع الذي أنتج مظاهرات واعية في 2011 و2019، لا يزال يحتفظ بقدرته على النهوض. استعادة الحياة الثقافية ليست حلمًا مستحيلًا، بل مسؤولية وطنية. الأمر لا يتعلق بإحياء الشيوعية أو البعث أو أي تيار سابق، بل بإعادة الاعتبار للثقافة كقيمة جامعة، تتجاوز الانتماءات الضيقة، وتعيد بناء الإنسان العراقي كمفكر ومشارك في صناعة مستقبله.
نحن بحاجة إلى مشروع وطني يضع الكتاب في مركز الفعل، ويدعم الفضاءات الحرة للنقاش، ويؤسس لثقافة مدنية تحترم العقل وتحتفي بالاختلاف. الثقافة ليست ترفًا… إنها شرط للبقاء.