من الفوضى إلى الدولة: دعوة نصيف الخصاف لرسم ملامح العراق الجديد

15

 

 

في زمن يضج بالفوضى السياسية والتشظي الاجتماعي وغياب الدولة بمعناها الحقيقي، يطلّ علينا الباحث العراقي نصيف الخصاف من خلال كتابه المهم “دعوة إلى التغيير: من الفوضى إلى الدولة”، الصادر عن دار قناديل، ليقدّم ليس فقط قراءة دقيقة للأزمة العراقية، بل خريطة طريق نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية قادرة على استعادة هيبتها ومشروعيتها.

تشخيص جريء للجذر لا للعرض

بعيدًا عن المعالجات السطحية، يعود بنا الخصاف إلى لحظة ما بعد غزو العراق عام 2003، ليفكك بنية النظام السياسي الذي تأسس في ظل سلطة الائتلاف المؤقتة، ويشير بوضوح إلى أن التأسيس الأولي لهذا النظام لم يكن بأي حال نتاجًا لإرادة وطنية عراقية، بل نتاج تدخل خارجي سافر. يورد في كتابه شهادة موثقة لرؤساء اللجان الفرعية التي شاركت في كتابة الدستور، تكشف أن قانون إدارة الدولة الذي أصبح أساسًا لدستور ما بعد 2005 كُتب في غالبه على يد شخصين غير عراقيين وتحت إشراف الاحتلال.

الدستور… بذرة الانقسام

يمضي الخصاف أبعد من التشخيص السياسي، ليخوض غمار تحليل دستوري عميق، حيث يفرد فصولًا لنقد الدستور القائم، مبينًا كيف أنه عزز الانقسام العرقي والطائفي بدلًا من أن يكون عقدًا اجتماعيًا موحدًا. يُظهر الباحث أن مواد الدستور الحالية لا تُعرّف الفيدرالية كما هو متعارف عليه عالميًا، بل تجعل منها أداة للابتزاز السياسي والمالي من قبل بعض المحافظات التي تهدد بالتحول إلى أقاليم مستقلة متى ما أرادت الضغط على الحكومة الاتحادية.

دستور مكتوب… لكنه مُخالف ومُعلّق

الأزمة لا تتوقف عند مواد الدستور فقط، بل في عدم التزام الطبقة الحاكمة بتنفيذه. يعرض الخصاف أمثلة موثقة على انتهاكات صارخة للدستور من قبل حكومات ما بعد 2005، مدعومة ببيانات من جهات رقابية ومؤسساتية. هذه الانتهاكات المتكررة جعلت الدستور أشبه بوثيقة معطّلة، لا تُلزم أحدًا، ولا تمنع أحدًا.

من النقد إلى البناء: مقترح دستور بديل

ما يميز الكتاب هو أنه لا يكتفي بهدم البناء القائم، بل يقدّم لبنة أولى في بناء جديد. إذ يعرض الخصاف في نهاية مؤلفه مسوّدة أولية لدستور بديل، كإطار أولي لنقاش عام وطني، وضعه بعد إجراء استبانة علمية بمساعدة مختصين، تناولت المبادئ العامة للدستور، وهو جهد كان يُفترض أن تقوم به لجنة كتابة الدستور قبل الشروع بصياغته، أو على الأقل خلال المراجعات اللاحقة.

هذا المقترح يفتح الباب أمام صياغة دستور أكثر انسجامًا مع تطلعات الشعب العراقي، يحمي وحدة البلاد، ويرسم ملامح دولة مدنية ديمقراطية، بعيدة عن سلطة الطوائف والمحاصصة.

دعوة لوعي جديد لا مجرد قراءة

“من الفوضى إلى الدولة” ليس مجرد كتاب فكري، بل هو دعوة لتأسيس وعي وطني جديد. هو نداء إلى الشباب، والنخب، وصناع الرأي، للخروج من دوامة الخطاب الشعبوي والشعارات الاستهلاكية، والانخراط في نقاش جاد ومشروع وطني حقيقي يبدأ بإصلاح البنية الدستورية.

من يريد التغيير لا يحتاج إلى شعار، بل إلى مشروع. وهذا ما يقدّمه نصيف الخصاف، بجرأة الباحث، وحرص المواطن، ودقة المؤرخ. كتابه ليس نهاية الطريق، بل بدايته. والوعي الذي يدعو إليه لا يُفرض من فوق، بل يبدأ من قرار فردي بأننا نرفض الفوضى… ونؤمن بالدولة.

التعليقات معطلة.