من المختبر إلى الشائعة… حين يتحوّل الأمل العلمي إلى وعدٍ لم يولَد بعد

1

عندما تنتشر الأخبار الزائفة أسرع من الحقيقة

تفحّص علمي لنموّ السن

في الأسبوع الماضي، وجدت وسائل التواصل الاجتماعي نفسها ساحةً لخبرٍ انتشر بسرعة تفوق قدرة التحقق.

عاصفة رقمية سبقت الحقيقة بخطوات

تناقلت منشورات تزعم أن جامعة سيول الوطنية في كوريا الجنوبية طوّرت رقعة لاصقة تُغرس في مكان السن المفقودة لتُنبت سناً جديدة كاملة دون جراحة أو زراعات أو أطقم. ومع مرور الساعات تحوّل الادعاء إلى يقين شعبي يُعاد تداوله بحماسة كأنه إعلان عن نهاية قرن كامل من ممارسات طب الأسنان التقليدية، فيما اندفع الناس ليبنوا على هذا الخبر آمالاً تتجاوز الواقع العلمي بمسافات واسعة.

 

خلايا تتشكّل... وسن تولد
خلايا تتشكّل… وسن تولد

 

التحقيق العلمي يكشف عن الغياب قبل الإثبات

غير أن العودة إلى قواعد البيانات العلمية والمجلات المُحكمة أظهرت فراغاً كاملاً خلف هذا الادعاء، فلا اسم لباحث رئيسي، ولا عنوان لدراسة منشورة، ولا مجلة علمية يمكن الرجوع إليها، ولا إشارة إلى DOI («معرِّف الكائن الرقمي» وهو رقم أو رمز فريد يُعطى للبحوث والمقالات العلمية بحيث يبقى ثابتاً ويمكن من خلاله الوصول إلى الدراسة مهما تغيّر موقعها أو المجلة أو رابطه) يتيح التتبع، ولا بيانات سريرية واحدة على البشر، بل مجرد موجة من الأخبار المكررة تستند إلى لغة تسويقية وإعلامية لا إلى منهج بحثي موثق، الأمر الذي يؤكد أن ما بدا اكتشافاً لم يكن سوى صدى لرغبات الجمهور أكثر مما هو نتاج المختبرات.

البحث الحقيقي… جذوره بريطانية ولسيت كورية

ولئن كان الادعاء الكوري بلا أساس، فإن الفكرة التي بُني عليها ترتبط في الأصل ببحث موثوق في المملكة المتحدة قاده البروفسور بول شارب (Paul T. Sharpe) في معهد طب الأسنان بجامعة كينغز كوليدج -لندن (King’s College London Dental Institute)، نُشر في مجلة «Scientific Reports» التابعة لمجموعة «نيتشر» تحت عنوان «Promotion of natural tooth repair by small molecule GSK3 antagonists»، وترجمته العربية: «تعزيز الإصلاح الطبيعي للسن بواسطة جزيئات صغيرة مثبِّطة لإنزيم GSK-3»، وهو بحث لا يدّعي إنبات سن جديدة، بل يحاول تحفيز الخلايا الجذعية داخل السن نفسها لإصلاح العاج من الداخل.

ما الذي حققته التجارب بالفعل؟

في تلك الدراسة البريطانية، استخدم الباحثون دواءً تجريبياً يُدعى تايدغلوزيب (Tideglusib) ضمن إسفنجة كولاجين صغيرة توضع داخل حفرة السن، مما أدى إلى تحفيز الخلايا الجذعية في لب السن لإنتاج عاج جديد يملأ التجويف طبيعياً، وكانت النتائج واعدة لكنها بقيت ضمن نطاق التجارب الحيوانية على الفئران، ولم تنتقل إلى مرحلة إنبات سن كاملة، ولا إلى تجارب بشرية واسعة، مما يجعل الفارق بين ما أُثبت وما يُؤمَل فارقاً علمياً لا يمكن تجاوزه بالخيال أو الرغبة.

محاولات كورية… لكنها لا تتجاوز العاج والإسمنت السِّني

ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن بعض الجامعات الكورية تعمل فعلاً على تجارب مخبرية تتعلق بتحفيز تكوين العاج والإسمنت السِّني في نماذج حيوانية صغيرة، غير أن هذه الأبحاث لا تزال محصورة في مراحل بدائية لا تتعدّى تجارب على الفئران، ولم تنتج عنها دلالات ناجحة أو قابلة للترجمة الإكلينيكية حتى لحظة كتابة هذا المقال، مما يعني أن الطريق نحو سن كاملة جديدة لا يزال طويلاً، وأن ما يجري تداوله أبعد بكثير من حدود ما جرى تحقيقه علمياً في المختبرات الكورية.

كيف اختلط الوعد بالتسويق؟

ولعلّ هذا الخلط بين البحث البريطاني والخبر الكوري يعكس ظاهرة مألوفة في العالم العلمي، حيث تلتقي الآمال المرتفعة مع اللغة الترويجية فتُمحى الحدود بين ما ثبت بالفعل وما يُتوقع أن يتحقق يوماً ما. إذ إن بين تجديد العاج داخل سن موجودة وإنبات سن كاملة جديدة فجوة معرفية وتقنية لا تزال قائمة، مهما بدت اللغة الإعلامية قادرة على اختصارها في جملة أو صورة أو فيديو.

قابلية التصديق… ومزاج الجمهور الصحي

تزداد هذه الظاهرة رسوخاً في مجتمعات يرتفع فيها فقدان الأسنان لأسباب تتصل بالسكري وأمراض اللثة والتدخين ونقص الوعي الوقائي، حيث يصبح الجمهور مستعداً لتلقي أي خبر يعد بنهاية الأطقم والزرعات، غير أن مسؤولية الطبيب الذي يكتب للجمهور لا تقوم على ممالأة التوقعات، بل على التفريق بين الأمل المشروع والوعد المتعجل.

 

تفحّص علمي لنموّ السن
تفحّص علمي لنموّ السن

 

العلم لا يُعلَن في فيديو… ولا يكتمل في منشور

نحن نشهد بالفعل تحولات كبرى في طب الأسنان، تبدأ من الذكاء الاصطناعي التشخيصي، وتمتد إلى الطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد والتجديد الخلوي، غير أن هذه التحولات لا تدخل العيادات لأن منشوراً انتشر، بل لأنها مرت بمراحل بحثية صارمة، وتجارب منضبطة، ونتائج طويلة الأمد، وشهادة الأقران، وهي رحلة لا تختصرها سرعة التحميل على الهواتف أو خفة التمرير على الشاشات.

إعادة الثقة إلى القارئ… لا إلى الخيال

من هنا تأتي أهمية أن يعرف القارئ العربي أن العلم لا يُقاس بعدد المشاركات ولا بعدد المشاهدات، بل بعدد التجارب التي تثبته وعدد السنوات التي تصمد فيها نتائجه، ففي عالم الطب لا يصنع الحماسُ الحقيقة، بل يصنعها البرهان، ولا يمنح العلاجُ شرعيتَه الانتشارُ بل الدليل.

بين الرغبة والإنجاز… حكمة كافكا

وكما قال فرانز كافكا، في عبارة تبدو كأنها كُتبت لهذا السياق:

«بين الرغبة والإنجاز مسافة لا يقطعها إلا الصبر». فقد تصبح الرقعة التي زُعم أنها تُنبت الأسنان حقيقة يوماً ما، ولا أحد ينكر أن الطريق نحو ذلك مفتوح، لكن حتى يحين ذلك تبقى الحقيقة أوضح من الوهم: العلم يتقدّم… لكنه لا يقفز. والأمل مشروع… لكن البرهان أولى.

التعليقات معطلة.