بدل تحرير فلسطين و”حل الدولتين” صار الكلام أقوى على ضم إسرائيل غزة والضفة الغربية بدعم أميركي مكشوف
لا تكتم حكومة نتنياهو الرغبة في تقسيم سوريا وادعاء حماية الدروز المصرين على الهوية العربية، أما على المستوى الإستراتيجي والجيوسياسي، فإن إسرائيل تحاول أن تفرض على الدول العربية المحيطة بها مناطق واسعة خالية من السلاح والعسكر، إلى حد مطالبة مصر بتخفيف قواتها في سيناء. هي القلعة التي تحمي نفسها على طريقة القياصرة الروس الذين كانوا يقولون إنهم “لا يطمئنون إلى أمتهم إن لم يكن الجيش الروسي على طرفي الحدود”.
لا مهرب من قراءة ثانية في عملية “طوفان الأقصى” وما دار فيها وبعدها من أحداث وتطورات، ولا أحد يعرف متى تكتمل هذه القراءة التي تبدو بطيئة بالنسبة إلى سرعة الأحداث، من حيث أوحت القراءة الأولى أنها تسبق الأحداث بخطوتين في الأقل، لكن من المفارقات أن يتوسع ويتعمق النقاش داخل إسرائيل التي زلزلتها العملية وكشفت معطوبيتها مقابل قليل من العمق وكثير من السطحية داخل غزة وفلسطين والعالم العربي والإسلامي، في نقاش العملية التي فاجأت “حماس” نفسها والعرب والعالم بما سجلته في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2003، ففي القراءة الأولى بدا يوم الطوفان معجزة في التخطيط والتنفيذ.
مقاومة مذهلة وعدو مذهول، معاودة القتال لتحرير فلسطين بعد أعوام من اليأس ومعاهدات السلام واتفاقات أبراهام واتفاق أوسلو، تظاهرات في عواصم العالم وفي قلب الجامعات الأميركية تأييداً لقضية فلسطين، مد إيراني واسع تمثل في “وحدة الساحات” من بيروت ودمشق إلى بغداد وصنعاء وغزة بقيادة طهران، “حرب إسناد” لغزة يقوم بها “حزب الله” في اليوم التالي للطوفان ضمن الاعتقاد أن “إسرائيل أوهى من خيوط العنكبوت”، وتركيز على كون نهاية إسرائيل تقترب على أيدي القوى الإسلامية في المركز الإيراني والأطراف بعد فشل القوى العربية في التحرير والجنوح إلى السلام.
لكن التطورات قادت إلى مشهد آخر مختلف، إسرائيل هدمت قطاع غزة وأضعفت “حماس” وضربت “حزب الله” بقسوة ودمرت كثيراً في لبنان. نظام الأسد سقط وهرب رئيسه وقادته أمام فصائل سلفية مسلحة من دون مقاومة، وبدل تحرير فلسطين و”حل الدولتين” صار الكلام أقوى على ضم إسرائيل غزة والضفة الغربية بدعم أميركي مكشوف، لا بل إن حكومة نتنياهو بدأت توسيع الاحتلال لأراض لبنانية كانت محررة، ولأراض سورية كانت في “المنطقة العازلة” على أساس اتفاق فك الارتباط عام 1974 إضافة إلى الجولان المحتل، وحسب “نيويورك تايمز” فإن الجيش الإسرائيلي يعمد إلى إقامة مواقع ومنشآت عسكرية داخل حدود كل من لبنان وسوريا.
ولا تكتم حكومة نتنياهو الرغبة في تقسيم سوريا وادعاء حماية الدروز المصرين على الهوية العربية، أما على المستوى الإستراتيجي والجيوسياسي، فإن إسرائيل تحاول أن تفرض على الدول العربية المحيطة بها مناطق واسعة خالية من السلاح والعسكر، إلى حد مطالبة مصر بتخفيف قواتها في سيناء. هي القلعة التي تحمي نفسها على طريقة القياصرة الروس الذين كانوا يقولون إنهم “لا يطمئنون إلى أمتهم إن لم يكن الجيش الروسي على طرفي الحدود”.
وكل هذا شيء والتغيير الذي حدث في الإستراتيجية الأميركية شيء آخر، واشنطن بدأت مع الرئيس باراك أوباما إستراتيجية “المحور”: تخفيف التزاماتها في الشرق الأوسط للتركيز على اللعبة الكبيرة في الشرق الأقصى حيث الثروة والقوة والمنافسة الروسية والصينية مع أميركا، ومن هنا كان الاتفاق النووي الإيراني بين طهران والقوى الخمس الكبرى في مجلس الأمن مع ألمانيا، وحين جاء الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض أعلن خروج أميركا من الاتفاق النووي وفرض “الضغط الأقصى” على إيران، لكنه اكتفى بالعمل على “اتفاقات أبراهام”، ولم يفعل كثيراً لمنع تفاقم الصراعات في الشرق الأوسط، والرئيس جو بايدن عمل على تنويع في سياسة أوباما.
لكن عودة ترمب إلى الرئاسة شكلت نقلة نوعية بالتدرج، فالأولويات عنده هي للتنافس والصراع والتعاون مع الصين كما لحرب تجارية عبر رفع الرسوم من أجل تخفيف العجز في ميزان التجارة الأميركي مع الصين وأوروبا وكندا والمكسيك وسواها، لكنه، عبر دعمه اللامحدود ورهانه على إسرائيل بدا كأنه يطبق ما دعاه إليه البروفيسور مايك كيماج وهو “البحث عن استغلال التصعيد لا عن تلافيه”.
ومن حيث كان التركيز على الشرق الأقصى والاهتمام السريع بإنهاء الحرب في أوكرانيا وترتيب العلاقات مع روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، عاد الشرق الأوسط محل الاهتمام الأول، إرسال مزيد من القوات الأميركية إلى المنطقة مع حاملتي طائرات وقاذفات “B2″، شن حملة مستمرة على الحوثيين في صنعاء الذين يهددون الملاحة في البحر الأحمر دعماً لحركة” حماس” بتسليح وتمويل من إيران، تهديد إيران بوضعها أمام خيار صعب: التخلي عن المشروع النووي والمشروع الصاروخي والمشروع الإقليمي والفصائل التي تعمل لها أو الحرب، وليس أمراً عادياً نقلة ترمب من تكتيكات بلا إستراتيجية إلى إستراتيجية متكاملة.
مختصر ما يواجه المنطقة هو حروب الرئيس الذي قال إنه جاء لإنهاء الحروب. نتنياهو ادعى أنه “غير الشرق الأوسط”، لكن من يغير الشرق الأوسط هو ترمب الذي قال الزعيم السابق للأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكدونيل إنه “سيكون حكيماً إذا بنى سياسة خارجية، حجر الأساس القوي فيها هو القوة الخشنة”، وكل هذا جاء بعد “طوفان الأقصى”، والقراءة الثانية فيه لم تكتمل.
والبروفيسور هال براندز على حق في القول ضمن الصراع على أوراسيا “إن ترمب لن يأخذ أميركا إلى انعزالية، بل إلى شيء أشد فتكاً”.
*نقلا عن إندبندنت عربية