من وعد بلفور إلى اعتراف ستارمر: كيف غيرت جهود السعودية مسار بريطانيا نحو “حل الدولتين”؟

1

يوم قالت الرياض للندن: “نؤمن بصداقتكم، لكن الصداقة يجب أن يكون لها تطبيق على أرض الواقع”… اعترفوا بمنظمة التحرير
مصطفى الأنصاري كاتب وصحافي @mustfaalansari
الاثنين 22 سبتمبر 2025 16:15
مقترح الملك فهد الذي قدمه إلى “قمة فاس” شكل أساس “حل الدولتين”(غيتي)
في خطوة تاريخية أعلنها رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر يوم أمس، أقرت بريطانيا الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، ممهدة الطريق لمؤتمر حل الدولتين الذي يعقد اليوم في الأمم المتحدة برئاسة مشتركة بين السعودية وفرنسا. هذا الاعتراف، الذي جاء بعد 108 سنوات من وعد بلفور المثير للجدل في 1917، الذي لقبه العرب بـ”المشؤوم”، لم يأت من فراغ، بل يعكس مساراً طويلاً من الجهود الدبلوماسية العربية، خصوصاً السعودية، التي لعبت دوراً محورياً في مقاومة الوعد ابتداء، ثم الدفع لاحقاً نحو الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، وترسيخ مبدأ حل الدولتين.
جذور الكفاح الأولى
توثق المصادر التاريخية والوثائق التي أفرج عنها البريطانيون، أن كفاح السعوديين في سبيل تغيير الموقف البريطاني لصالح العرب، بدأ منذ وقت مبكر، إلا أن أوجه كان خلال المؤتمر الذي سمي “المائدة المستديرة” في لندن عام 1939، حين لعبت السعودية دوراً محورياً في الدفاع عن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة. ففي رسالة بعث بها الأمير فيصل بن عبدالعزيز إلى أمين الريحاني في الثالث من مارس (آذار) من ذلك العام، قال: “نواصل الليل بالنهار لإقناع الإنجليز بعدالة مطالب العرب، وقد توفقنا حتى الآن إلى زحزحتهم عن موقفهم السلبي، وحصلنا منهم على أسس جديدة متعلقة بالاستقلال وتحديد دور الانتقال وتحديد الهجرة نهائياً”.
هذا الموقف لم يكن ارتجالياً، بل ثمرة لتوجيهات واضحة من الملك عبدالعزيز الذي شدد في وصيته لمندوبه الفيصل قبل رئاسته للوفد السعودي في مؤتمر المائدة المستديرة، وقال له: «ليست لنا غاية خاصة في الشكل المقترح للحل غير تأمين مطالب أهل فلسطين، وأن نجعل تلك المطالب كأساس لتلك المفاوضات، وكل مشروع إجمالي يحوي: (أولاً) تأمين منع الهجرة اليهودية، (ثانياً) يمنع بيع الأراضي لليهود، (ثالثاً) تأمين استقلال فلسطين، فلا بأس أن تمضوا فيه إذا كان مطابقاً لما ذكرناه لكم أعلاه». وذلك ضمن رسالة أطول دونها خير الدين الزركلي في كتابه “شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز”، عكست وضوح الموقف السعودي المبكر وثباته في دعم القضية الفلسطينية كقضية عربية عادلة، تتقدم على أي حسابات خاصة.
يوم تاريخي .. اعتراف بريطانيا اليوم بالدولة الفلسطينية بعد اكثر من قرن على وعد بلفور بإقامة دولة يهودية https://t.co/HLwpF3wU1a pic.twitter.com/JpRlRYNFdn
لكن بريطانيا، على رغم استماعها لحجج الوفد السعودي والدول العربية، ظلت تتلكأ لعقود، متمسكة بما وصفته بـ”الحلول التدريجية”، معتبرة أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية “خطوة سابقة لأوانها”. وهو ما جعل مؤتمر لندن شاهداً مبكراً على عجز القوى الاستعمارية السابقة عن التعامل بجدية مع جوهر القضية، على رغم وجاهة الطرح العربي، إذ “جاء فشل ذلك المؤتمر بسبب صلابة الموقف العربي على رغم الوسائل التي قامت بها الحكومة البريطانية من خلال عقد اجتماعات غير رسمية ومحاولة تقديم اقتراحات غير عادلة”، وفق المؤرخ السعودي فهد السماري، مما أثمر نتائج دامية، انتهت إلى حرب 48 والنكبة التي أعقبته.
قمة فاس تحرج بريطانيا
لكن القيادة السعودية لم تيأس على رغم الخيبات المتراكمة في الحوار مع البريطانيين، إذ تعود جذور التغيير الذي نراه اليوم لقمة فاس العربية في سبتمبر (ايلول) 1982، إذ أقر الزعماء العرب ثماني نقاط للسلام في الشرق الأوسط، مستوحاة أساساً من مقترح الملك فهد بن عبدالعزيز الذي قدمه في أغسطس (آب) من العام نفسه. كان المقترح يدعو إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة، مع القدس الشرقية عاصمة لها، وإزالة الاستيطان الإسرائيلي، واعتراف ضمني بحق إسرائيل في العيش بسلام.
في سياق البرلمان البريطاني، أثارت قمة فاس نقاشات حية حول السلام في الشرق الأوسط. ففي الـ20 من أكتوبر (تشرين الأول) 1982، أكد وزير الخارجية البريطاني آنذاك أن إعلان قمة فاس، إلى جانب اقتراحات الرئيس الأميركي رونالد ريغان، يمثلان “فرصة مهمة جداً لتحقيق تقدم نحو السلام”. كما أعلن زيارة لجنة عربية من القمة إلى لندن في نوفمبر، تضم ممثلين من المغرب وتونس والسعودية وسوريا، لمناقشة الخطة مع الحكومة البريطانية.
هذه اللجنة كانت خطوة سعودية مدروسة لتعزيز الضغط الدبلوماسي، إذ رأت السعودية في بريطانيا حليفاً أوروبياً رئيساً يمكن إقناعه بضرورة الاعتراف بالحقوق الفلسطينية. ومع ذلك، أدى رفض رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر للقاء قادة منظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك ياسر عرفات، إلى إثارة أزمة دبلوماسية، إذ أعربت الملك فهد عن غضبه قائلاً “كيف يمكن لرئيسة الوزراء أن تصافح (مناحيم) بيغن، الذي كان هو نفسه مسؤولاً عن قتل الجنود البريطانيين”، وترفض مقابلة الفلسطينيين بدعوى أنهم منظمة غير معترف بها؟
وحذر الملك فهد البريطانيين في ذلك الوقت، بحسب الوثائق الأرشيفية التي اطلعت عليها “اندبندنت عربية”، من أن رفض اللقاء بالمعتدلين سيكون ثمنه بروز أطراف عربية أكثر تطرفاً. وقال في رسالة غاضبة إلى لندن نقلها سفيرها، “هل كنا نحاول أن نقول للعرب إنهم لن ينالوا حقوقهم إلا بالقوة”؟
أزمة سياسية بين السعودية وبريطانيا
لم تكن السعودية مجرد مشاركة في القمة، بل مارست ضغطاً مباشراً على بريطانيا للاعتراف الأولي بمنظمة التحرير الفلسطينية (PLO) كممثل شرعي للفلسطينيين. في نقاشات البرلمان في يونيو 1982، قبل قمة فاس بأشهر قليلة، أبرز النواب البريطانيون دور الملك فهد كقائد “ذي خبرة هائلة ومرونة غير عادية” في سعيه إلى أهداف السلام، مشيرين إلى أن خطة فهد تمثل “خطوة إلى الأمام” بفضل اعترافها بحق جميع الدول في الوجود، بما في ذلك إسرائيل. ومع ذلك، أكدت الحكومة البريطانية موقفها المشروط بأنه “يجب على منظمة التحرير أن تعترف بحقوق إسرائيل وتتخلى عن الإرهاب قبل أن نغير موقفنا تجاهها”.
أدى هذا الضغط إلى تغيير متدرج في السياسة البريطانية، في الستينيات كانت بريطانيا ترفض الاتصال بالمنظمة، لكن بحلول 1982، بدأت في إقامة اتصالات غير رسمية للضغط على المنظمة للتخلي عن العنف، مستندة إلى إعلان فينيسيا الأوروبي الذي أكد شرعية المنظمة، لكنها لم ترق إلى المستوى المأمول من جانب الرياض التي تعرف رمزية بريطانيا صاحبة “وعد بلفور” وأهمية انفتاحها على الكيان الفلسطيني الوليد.
اقرأ المزيد
نهاية النفق الذي وضعت فيه منظمة التحرير العلاقات السعودية – البريطانية (3-3)
الأمم المتحدة تصوت بأغلبية ساحقة على إعلان “حل الدولتين”
ماذا يعني فعليا اعتراف بريطانيا بدولة فلسطين؟
في ديسمبر 1982، ألغت السعودية زيارة وفد الجامعة العربي إلى لندن بعد رفض ثاتشر لقاء عرفات، مما أثار حملة إعلامية عربية ورفض السعودية استقبال زيارات بريطانية رسمية، بما في ذلك زيارة وزير الخارجية فرانسيس بايم. نشر الأمير بندر بن عبدالله رسالة في “التايمز” في السابع من يناير 1983، ينتقد فيها معاملة بريطانيا للوفد العربي، قائلاً: “إن الإهانة الأخيرة التي تعرض لها وفد عربي قادم إلى بريطانيا لشرح الموقف العربي في ما يتعلق بالمشكلة الفلسطينية لا ينبغي أن تمر مرور الكرام أو من دون عقاب”. ردت بريطانيا بمذكرة دبلوماسية في الـ10 من يناير 1983 تعترف بـ”الورطة”، قائلة “نحن الآن في ورطة يجب علينا أن نخرج أنفسنا منها بسرعة، ومن دون إلحاق مزيد من الضرر بعلاقاتنا مع العالم العربي.”
الرياض ترفض تبريرات لندن
استمر الضغط السعودي في فبراير (شباط) 1983، فأرسلت مارغريت ثاتشر رسالة إلى الملك فهد في الثامن من فبراير، أكدت فيها التزام بريطانيا بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وبدور منظمة التحرير الفلسطينية في المفاوضات، قائلة، بحسب وثائق الأرشيف البريطاني، “لقد أسهمت بريطانيا بقدر أية دولة غربية أخرى في الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وفي قبول ضرورة مشاركة منظمة التحرير في المفاوضات من أجل التسوية، ولم نتراجع قيد أنملة عن هذا الموقف”.
وفي الـ13 من فبراير، التقى الملك فهد بالسفير البريطاني، مطالباً بمزيد من المرونة تجاه مشاركة المنظمة، ومشدداً على أننا “إذا لم نساعد القادة العرب اليوم وهم معتدلون وعقلانيون، فسنجد أنفسنا يوماً ما مضطرين إلى التعامل مع قادة متهورين وغير مسؤولين”.
وتنقل الوثائق تقييم السفير البريطاني الذي التقى الملك فهد أثناء تلك الأزمة، فهو من وجهة نظره، “الملك ببساطة لم يستطع أن يفهم لماذا كان التحدث إلى ممثل منظمة التحرير الفلسطينية يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة إلى البريطانيين”.
ومضى في نقل تساؤلات الملك السعودي، مضيفاً “هل كنا قلقين من أن يعد استقبال ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية بمثابة اعتراف رسمي بمنظمة التحرير الفلسطينية؟ استقبلت فرنسا الوفد، لكنها لم تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية. لقد سمحنا بوجود مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في لندن، أليس كذلك؟ قلت إنه كان هناك ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية في مكتب الجامعة العربية بلندن، وهو أمر مختلف إلى حد ما، لقد تم تجاهل هذا جانباً. في الوقت الحالي لقد تم عرض أفضل مبادرة على الإطلاق لحل مسألة الشرق الأوسط، وكانت بريطانيا تؤخر التقدم. كانت المملكة العربية السعودية تحب وتحترم المملكة المتحدة، وأرادت أن تؤمن بالصداقة البريطانية، لكن الصداقة يجب أن يكون لها تطبيق على أرض الواقع”.
زيارة الملك سلمان تنقذ الموقف
في وقت لاحق أسهمت زيارة الملك سلمان (الذي كان آنذاك أمير الرياض، وقريباً من الملك فهد) إلى لندن في تسهيل الوساطة وإنهاء الأزمة. كانت الزيارة شخصية في الأصل، لمدة 10 أيام إلى أسبوعين، ولم يخطط فيها الأمير سلمان للقاء مسؤولين بريطانيين، لكن الحكومة البريطانية رأت فيها فرصة استراتيجية للاستفادة من قربه من الملك فهد.
وثيقة سرية بريطانية أشارت إلى أن “السفارة السعودية اتصلت في الصباح لطلب الحماية للأمير سلمان بن عبدالعزيز، الذي يقولون إنه سيكون في لندن في زيارة خاصة لمدة 10 أيام إلى أسبوعين”. واقترح البريطانيون استخدام وجوده “لصالحنا بطريقة ما”، بما في ذلك زيارة محتملة من وزير الخارجية دوغلاس هيرد للأمير سلمان كلفتة، لنقل الرؤية البريطانية إلى القيادة السعودية. أدى هذا التواصل إلى تنازلات بريطانية، مما مهد لاختيار الأكاديمي الفلسطيني وليد الخالدي (عضو مجلس وطني فلسطيني غير رسمي عن المنظمة) كممثل في الوفد.
انتهت الأزمة في مارس 1983 بقبول بريطانيا للوفد العربي برئاسة الملك حسين، الذي تضمن وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، وأدى إلى لقاء ثاتشر الدافئ، مما أعاد توطيد العلاقات مع تقديم تنازلات للرياض.
أصبح مقترح فهد أساساً لمبادرة السلام العربية في 2002، التي اعتمدتها قمة بيروت، وهي التي ألهمت اليوم الاعترافات الغربية المتسارعة، بما في ذلك البريطانية، التي جاءت في سياق الحشد لـ”مؤتمر حل الدولتين” الذي تترأسه السعودية وفرنسا في الأمم المتحدة.
هل لا يزال لاعتراف بريطانيا قيمة؟
مع اعتراف بريطانيا (إلى جانب كندا وأستراليا) يوم الـ21 من سبتمبر، تؤتي ضغوط الرياض المتجددة على بريطانيا أكلها، فيما تكثف الدبلوماسية السعودية الضغط لوقف الحرب في غزة والاستيطان الإسرائيلي وإحياء المفاوضات، نحو مسار لا رجعة فيه، يجعل من “حل الدولتين” أمراً واقعاً.
في نقاشات البرلمان البريطاني حتى قبل عقود، كان ينظر إلى دولة فلسطينية “غير مسلحة” كخيار ممكن لتحقيق حكم ذاتي فلسطيني، وهو ما يتردد اليوم في دعوات ستارمر إلى “سلام عادل”. إن هذا التطور يؤكد أن الجهود السعودية، من فاس إلى اليوم، لم تكن مجرد ردود فعل، بل استراتيجية طويلة الأمد غيرت مسار بريطانيا من الانتداب إلى الاعتراف.
كاميرا “اندبندنت عربية” توثق لحظة رفع العلم الفلسطيني أمام السفارة الفلسطينية في لندن احتفالاً باعتراف الحكومة البريطانية بدولة فلسطين#نكمن_في_التفاصيل pic.twitter.com/GuDyCRPuwE
يظهر هذا السياق أن السلام في الشرق الأوسط ليس مصيراً محتوماً، بل نتيجة دبلوماسية صبورة.
ومع الزخم غير المسبوق الذي يدفع به المؤتمر الذي ألقت السعودية بكل ثقلها خلف فكرته وحشوده، يظل السؤال: هل ينجح التحالف السعودي – الأوروبي في ترجمة الوعود البريطانية إلى واقع، أم أن الاعتراف البريطاني فقد بريقه القديم بعد أن حلت أميركا موقع لندن في توفير مظلة الحماية لإسرائيل سياسياً وعسكرياً؟
وكانت الأكاديمية في جامعة لندن، المتخصصة في سياسات الشرق الأوسط جولي نورمان، قالت لـ”اندبندنت” إن اعتراف المملكة المتحدة بدولة فلسطين يعني التصويت لمصلحة ذلك في الأمم المتحدة، لكنها أوضحت أنه من غير المرجح أن تتمكن المنظمة الدولية من إقرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية بسبب احتمال استخدام الولايات المتحدة حق النقض ضد الخطوة.
وأضافت أن اعتراف بريطانيا الرسمي بالدولة الفلسطينية سيظل “ذا قيمة”، حتى لو لم يتغير الكثير على أرض الواقع، في ظل استمرار إسرائيل في “رفضها الكامل” فكرة الاعتراف.
من جهته يرى السياسي الفلسطيني مصطفى البرغوثي أن الاعتراف بدولة فلسطين، رغم أهميته ورسوخه اليوم لدى نحو 150 دولة، يبقى بلا معنى حقيقي إذا لم يُترجم إلى خطوات عملية. فهو يعتبره في أحسن الأحوال مجرد رمز، وفي أسوأها وسيلة لصرف الأنظار عن فشل المجتمع الدولي في وقف الحرب الإسرائيلية على غزة وما تسببه من تجويع وتهجير لنحو مليوني فلسطيني.
ويؤكد في مقالة كتبها في “نيويورك تايمز” بالتزامن مع انعقاد المؤتمر أن “أي اعتراف يجب أن يترافق مع إجراءات ملموسة لمحاسبة إسرائيل على سياساتها غير الشرعية والمدمّرة”.

التعليقات معطلة.