لا يمكن قراءة السياسة الدولية في منطقتنا من دون استحضار التاريخ، فهو المفتاح لفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل. قبل أكثر من قرن، وتحديداً في عام 1917، أصدرت بريطانيا وعد بلفور الشهير الذي فتح الباب أمام المشروع الصهيوني وأرسى الأساس لقيام دولة إسرائيل لاحقاً. كان ذلك الوعد بمثابة هزة زلزلت المشرق العربي، وأطلقت مساراً لم ينتهِ حتى اليوم. وما بين ذلك التاريخ واللحظة الراهنة، شهدت المنطقة تحولات عاصفة، لكن الثابت الوحيد أن الشعوب بقيت الضحية الدائمة لسياسات القوى الكبرى.
واليوم، بعد مرور أكثر من مئة عام، نشهد مشهداً معاكساً: بريطانيا نفسها، ومعها عواصم أوروبية وغربية أخرى، تعلن الاعتراف بدولة فلسطينية. للوهلة الأولى يبدو الأمر وكأنه محاولة لتصحيح خطأ تاريخي، أو خطوة متأخرة نحو العدالة. لكن قراءة أعمق تكشف أن السياسة لا تتحرك بدافع القيم أو المبادئ، بل بفعل الضرورات وموازين القوة. فكما أن وعد بلفور لم يكن مجرد رسالة عاطفية بل مشروعاً استراتيجياً، فإن الاعتراف الحالي ليس هدية للشعب الفلسطيني بقدر ما هو انعكاس لمعادلات جديدة على مستوى الإقليم والعالم.
بين البدايات والنهايات
إن التناقض بين الوعدين، الأول لليهود عام 1917 والثاني للفلسطينيين بعد قرن، يكشف طبيعة السياسة الدولية بوصفها لعبة مصالح متغيرة. ففي الحرب العالمية الأولى، كانت القوى الاستعمارية تعيد تقسيم الشرق الأوسط عبر خرائط سايكس بيكو وبلفور، لتخدم مصالحها الاستراتيجية. واليوم، تعود نفس القوى لترسم خرائط جديدة، ربما أقل وضوحاً، لكنها لا تقل خطورة وربما الاخطر على العرب .
الشعوب في هذه المعادلة تبدو كأنها مجرد أدوات أو رهائن. من فلسطين إلى العراق وسوريا ولبنان، ومن أفغانستان إلى باكستان، نجد أن الخرائط تُرسم في غرف مغلقة بينما الناس يدفعون ثمن الدم والتشريد والانقسام. وما بين تل أبيب وإسلام آباد، تظل المنطقة رهينة تحولات دولية لا تنتهي، حيث كل قرن يأتي بوعود جديدة، لكن المصائر تبقى معلقة.
الاعتراف ليس نهاية الطريق
قد يعتقد البعض أن الاعتراف بفلسطين يمثل نهاية للصراع أو بداية حل عادل. لكن الواقع يشير إلى أن هذه الخطوة ليست سوى جزء من لعبة أكبر. فالقوى الغربية تدرك أن استمرار النزاع على حاله أصبح خطراً على مصالحها، خاصة مع تصاعد التوترات الإقليمية والدولية. لذلك، يبدو الاعتراف أقرب إلى أداة لإدارة الأزمة لا حلها، وإلى ورقة تفاوضية تسبق جولات جديدة من إعادة رسم الخرائط.
ومن هنا، يظهر التشابه بين الماضي والحاضر: وعد بلفور كان تأسيساً لمشروع استيطاني غيّر معالم المنطقة لعقود، والاعتراف الحالي قد يكون تأسيساً لمعادلات جديدة، إما تفتح باباً للاستقرار، أو تعيد إنتاج صراع أكثر تعقيداً.
أين موقع الشعوب؟
الجانب الأكثر خطورة في هذه التحولات أن الشعوب ليست طرفاً فاعلاً في صياغة القرارات. فهي دائماً آخر من يعلم وأول من يدفع الثمن. في القرن الماضي، لم يُستشر الفلسطينيون في مصير أرضهم، ولم يُستشر العراقيون أو السوريون في خرائط سايكس – بيكو. واليوم أيضاً، لا يبدو أن الشعوب تملك أدوات القرار، بل تظل معلقة بين وعود دولية تتغير كل جيل، وبين قوى محلية عاجزة أو مرتهنة.
هذا الواقع يثير سؤالاً ملحاً: إلى متى تبقى الشعوب رهينة خرائط الآخرين؟ هل يُعقل أن يظل مستقبل المنطقة يُرسم في عواصم غربية أو عبر تفاهمات دولية لا مكان فيها لصوت الناس؟ إذا لم تتحول الشعوب إلى فاعل رئيسي، فإن المئة عام القادمة قد تحمل مآسي أشد من تلك التي عاشها القرن الماضي.
السياسة لعبة خطيرة
إن الدرس الأبرز الذي يمكن استخلاصه من مسار القرن الماضي هو أن السياسة لعبة خطيرة لا تعترف بالثبات. الخرائط تتبدل، التحالفات تتغير، الأعداء يصبحون أصدقاء، والوعود تتحول من وعد لليهود إلى اعتراف بالفلسطينيين. لكن الشيء الذي لا يتغير هو الثمن الذي تدفعه الشعوب من دمها واستقرارها ومستقبلها.
اليوم، ونحن أمام اعتراف جديد بدولة فلسطين، ينبغي أن نقرأ المشهد بوعي: لا باعتباره نهاية الصراع، بل محطة في مسار طويل لم يكتمل بعد. فالاعتراف قد يفتح الباب أمام تسويات كبرى، وربما أمام صراعات جديدة. وكل ذلك يؤكد أن الشعوب في منطقتنا لا تزال على رصيف الانتظار، تتلقى القرارات من الخارج، بينما مصيرها يتقرر في أماكن بعيدة عنها .
بين وعد بلفور والاعتراف بفلسطين قرن كامل تغيّرت فيه الخرائط أكثر من مرة، لكن المصائر لم تستقر. السياسة الدولية أثبتت أنها لا تعرف الثبات، وأن من لا يملك قراره يصبح مجرد ورقة على طاولة الآخرين. لذلك، فإن التحدي الأكبر أمام شعوب المنطقة ليس انتظار اعترافات جديدة أو وعود أخرى، بل القدرة على أن تتحول من موضوع للسياسة إلى صانع للسياسة، ومن متلقٍ للخرائط إلى راسم لها.
فالتاريخ لا يرحم الغائبين عن صناعة مستقبلهم، والسياسة، كما علمتنا المئة عام الماضية، أخطر من أن تُترك للآخرين وحدهم .