«معركة الآيفون» بين إدارة الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، والصين، قد تكون كاشفة في تحديد من الفائز ومن الخاسر ليس فقط في قضية الرسوم الجمركية، بل وفي تحديد مدى قدرة الإدارة الأمريكية على إعادة الصناعات الأمريكية المهاجرة للخارج إلى بلادها مرة أخرى. كثيرون لم يكونوا يعرفون حجم التقدم والسيطرة والهيمنة الاقتصادية الصينية، إلا بعد أن قرر ترامب فرض رسوم جمركية على سلع 200 دولة بنسبة 10% كحد أدنى، لكنه تراجع لاحقاً وقرر تأجيل تطبيقها لمدة 90 يوماً، في حين ضاعف الرسوم المطبقة على السلع الصينية أكثر من مرة حتى وصلت إلى 145%.
قصة الآيفون تبين بصورة بسيطة وواضحة حجم الأزمة التي تواجهها أمريكا في صراعها الاقتصادي الطويل مع الصين ورغبتها في عودة تصنيع السلع الأمريكية داخل أمريكا. حينما فرض ترامب رسوماً بنسبة 54% ثم ضاعفها إلى 145% على المنتجات الصينية فإن أكثر المتأثرين بهذا القرار كانت شركات التكنولوجيا الأمريكية، وعلى رأسها شركة «آبل» منتجة الآيفون والسبب باختصار أن 90% من إنتاج هذه الأجهزة يتم في الصين.
على سبيل المثال فإن تكلفة إنتاج هاتف «آيفون» من طراز 16 برو بذاكرة 256 جيحا بايت كما تقول العديد من التقارير الإخبارية تبلغ 580 دولاراً، ومع فرض تعريفة جمركية بنسبة 54 % فقط، فإن السعر سيصل إلى 850 دولاراً، والسعر النهائي سيقفز إلى 1020 دولاراً، ما يقلل من هامش الربح بشكل كبير، ما لم تقم شركة آبل بزيادة سعر البيع بالتجزئة.. وهذا السعر مرشح للزيادة في أسواق أخرى تفرض مزيداً من الجمارك والضرائب والرسوم.
السؤال: لماذا ستكون عودة إنتاج الآيفون في أمريكا صعبة إلى حد كبير؟ الإجابة ببساطة لأن تكاليف العمالة لتجميع الجهاز في أمريكا قد تصل إلى 300 دولار لكل جهاز مقارنة بـ30 دولاراً فقط في الصين، لكن الأخطر أن الصين صارت تمتلك بنية تحتية تكنولوجية متطورة غير موجودة في الولايات المتحدة حالياً.
على عهدة صحيفة «وول ستريت جورنال»، فإن الواقع الصناعي أكثر تعقيداً لأن الآيفون على سبيل المثال يتكون من مجموعة معقدة من المكونات المتطورة التي يتم تصنيعها في بلدان متعددة، ويتم تجميعها بشكل أساسي في الصين، حيث جرى تطوير صناعة الإلكترونيات هناك بشكل مذهل على مدار جيل كامل. وطبقاً للمعلومات فإن 40 دولة تسهم في مكونات تدخل في صناعة الآيفون، لكن أهمها يقع إما في الصين أو في دول قريبة منها، وهذه ميزة جغرافية مهمة للصين.
والمفاجأة الغريبة أن أمريكا لم تعد تملك البنية التحتية المشابهة للصين، وتفتقر إلى الأيدي العاملة الماهرة التي تستطيع تجميع أجهزة الآيفون على هذا النطاق الواسع. الحكومة الأمريكية شكلت لجنة من الخبراء في مجال التصنيع والتكنولوجيا لمعرفة مدى صعوبة إنتاج الآيفون في أمريكا، وكانت المفاجأة أن بناء كامل سلسلة الإمداد ومكونات الجهاز وتجميعه داخل أمريكا أمر مستحيل عملياً، على الأقل في الوقت الراهن، لكن نقل جزء من عمليات التصنيع إلى الداخل الأمريكي قابل للتطبيق نظرياً.
وفي تقدير غاري جيريفي، الخبير في سلاسل التوريد العالمية، أن الطريق الواقعي لتجميع الآيفون في أمريكا هو إعادة بناء سلسلة الإمداد عبر نقل جزء من تصنيع المكونات الأساسية في أمريكا الشمالية، أي المكسيك وكندا وربما بعض دول غرب أوروبا.
ومن المفارقات الغريبة أنه حينما فكرت شركة آبل في تصنيع جهاز «ماك برو» داخل أمريكا فإن المشكلة الصعبة التي واجهتها كانت العثور على «البراغي» من مصادر محلية، إضافة إلى مشكلة أكبر وهي كيفية العثور على العدد الكافي من أيدٍ عاملة بشرية مؤهلة ومدربة داخل أمريكا إضافة إلى الأجهزة الروبوتية.
وبحسب تحليل آخر أعده المحلل الاقتصادي، واسمي موهان، فإن عملية نقل تصنيع الآيفون بالكامل في أمريكا ستكون صعبة وتستغرق سنوات، كما أن السعر سوف يرتفع بنسبة 25% نتيجة فارق تكلفة العمالة فقط، أما إذا اضطرت شركة آبل لدفع رسوم جمركية على المكونات المستوردة من الدول الأخرى، فسوف ترتفع تكلفة الآيفون إلى أكثر من 90%.
ونتيجة لكل ذلك فإن سهم آبل تراجع بأكثر من 20% بسبب رسوم ترامب الجمركية، وخسرت الشركة أكثر من 700 مليار دولار من قيمتها السوقية لتصبح 2.6 تريليون دولار، في حين ارتفعت قيمة منافستها شركة مايكروسوفت إلى 2.64 تريليون دولار، ولتصبح الشركة الأعلى قيمة في العالم بدلاً من آبل.
المفاجأة الأسوأ فجرها دان إيف من شركة الاستشارات المالية «ويدبوش سيكيورتيز» بقوله، إن آبل ليست فقط الأكثر تضرراً من قرارات ترامب، بل إن القرارات سوف ترفع سعر جهاز الآيفون إلى 3500 دولار، وسوف تحتاج الشركة إلى 30 مليار دولار وثلاث سنوات لنقل 10% فقط من سلسلة إمدادها إلى الولايات المتحدة.
قد يسأل البعض: لماذا كل هذه البيانات التفصيلية السابقة؟ الإجابة ببساطة لأن معظمنا يتحدث في العموميات عن الصراع الصيني الأمريكي مثلاً، لكن لم يكن معظمنا يعرف عن التفاصيل الفنية الدقيقة لتصنيع الآيفون مثلاً، وأن تصنيع «البراغي» على سبيل المثال، يمكن أن يلعب دوراً مهماً في هذا الصراع المحتدم بين القوتين الأكبر عالمياً في الاقتصاد.
الصين استثمرت بهدوء وببطء شديد حتى توطن سلاسل الإمداد العالمية الكبرى في العديد من الصناعات المهمة، وربما يفسر لنا ذلك كيف فضلت الانزواء عسكرياً وسياسياً، وعدم الدخول في صراعات كبرى، وحتى لو كانت تخص تايوان، كي تتمكن من بناء كل هذه القلاع الصناعية الكبرى.
والمؤكد أن هناك العديد من الصناعات التي كانت أمريكية ثم صارت تصنع في الصين، هرباً من الضرائب والقوانين الأمريكية الصارمة، والآن فإن الولايات المتحدة تدفع ثمن كل ذلك. السؤال: ترى كيف سيتعامل ترامب مع هذه المشاكل والأزمات والتحديات، التي لم يكن يعتقد ربما حتى بوجودها، وخصوصاً أيضاً مشكلة أخطر اسمها مستقبل الدولار وخصوصاً أمام اليوان الصيني.