بغداد / تبارك عبد المجيد
يشهد العراق أزمة مائية متفاقمة تنذر بتداعيات خطيرة على الأمن الغذائي والبيئي للبلاد، في ظل تراجع الخزين المائي إلى مستويات غير مسبوقة وضعف الإيرادات القادمة من دول المنبع، ولا سيما تركيا، إلى جانب ما يصفه الخبراء بـ« سوء الإدارة» وغياب الرؤية الاستراتيجية في إدارة الموارد المائية.
وذكر وزير الموارد المائية العراقي، عون ذياب عبد الله، خلال شهر آب الماضي، أن العراق يواجه أزمة حادة في المياه، مشيراً إلى أن المخزون المائي لا يتجاوز نسبة 8% من طاقة التخزين الكلية.
وضع السدود؟
من جهته قال المستشار في الشأن المائي، عادل المختار، إن «حقيقة السدود في العراق تُظهر أن لدينا سعة خزنية كلية تقارب 100 مليار متر مكعب، وهو فضاء خزني كبير، إلا أن الخزين الحالي لا يتجاوز 5 مليارات متر مكعب، وهو رقم يعدّ خطيراً جداً في هذه المرحلة».
وأوضح المختار لـ«المدى» أن الإيرادات المائية القادمة من تركيا ضعفت بشكل ملحوظ، وهي التي كانت في السنوات الماضية تسهم في دعم الخزين المائي، مما سمح بتجاوز الأزمات السابقة. أما اليوم فإن ضعف تلك الإيرادات أدى إلى تزايد المخاوف من شح مائي حاد.
وأشار إلى أن الخطط التخزينية المعتمدة في البلاد سليمة بنسبة 100 %، حيث تتم إدارة المياه من السدود العليا في الشمال نزولاً حتى خزان الثرثار وفق آليات مدروسة ومعروفة، لكن المشكلة الجوهرية تكمن في ضعف الإيرادات المائية وشحّ الأمطار، وهو ما أدى إلى هذا التراجع في الخزين.
وأضاف المختار: «كنا قد حذّرنا قبل نحو ستة أشهر من أن موسم الشتاء سيكون جافاً، لكن للأسف لم يُؤخذ هذا التحذير بالجدية الكافية، وها نحن اليوم نواجه تداعيات هذا الواقع».
وبيّن أنه في حال كان الشتاء المقبل جافاً أيضاً، فإن الوضع سيكون أكثر خطورة، ومن الصعب التنبؤ بتداعياته أو السيطرة على آثاره في الوقت الراهن.
وتابع قائلاً: «رغم أن أغلب المختصين يتوقعون أن يكون الشتاء القادم ممطراً بامتياز، إلا أن استمرار العمل بالأساليب الحالية في إدارة الموارد المائية سيعيدنا إلى المشكلة ذاتها في الموسم المقبل، حيث سيُستهلك الخزين مرة أخرى مع بداية موسم الزراعة، مما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة من الأزمات المائية».
وأكد المختار ضرورة وضع خطة تغذية مائية استراتيجية طويلة الأمد، تعتمد على تنويع مصادر المياه، وتحسين كفاءة الخزن والاستخدام، ودعم التعاون الإقليمي لضمان استدامة الموارد المائية في البلاد.
سوء الإدارة
في السياق ذاته، أكد الخبير في شؤون المياه والبيئة، رمضان حمزة، لـ«المدى» أن «العراق يمتلك كل المقومات الطبيعية من أنهار ومياه جوفية وموارد مائية متنوعة، إلا أن المشكلة الأساسية تكمن في سوء إدارة الموارد المتوفرة، وليس في غيابها».
وأضاف أن الإدارة المتكاملة للمياه في العراق تحتاج إلى «سياق مختلف تماماً عن السياق الحالي الذي تعمل عليه وزارة الموارد المائية منذ عام 2003»، مشيراً إلى أن الوزارة «تفتقر إلى آلية حقيقية للاستعانة بآراء الخبراء، وتعتمد في الغالب على شركات وهمية لإجراء الدراسات الفنية».
وأوضح أن «الكثير من هذه الدراسات لا تعكس الواقع الميداني، ولا تستند إلى بيانات دقيقة، والدراسة الاستراتيجية للمياه مثال واضح على ذلك»، مبيناً أن الدراسة التي أُطلقت عام 2005 كان من المفترض أن تمتد لخمس سنوات فقط، لكنها استمرت عشر سنوات دون تحقيق نتائج ملموسة.
وأشار حمزة إلى أنه شارك في اجتماعات داخل الوزارة وسأل القائمين على الدراسة عن مدى تطابق توقعاتهم السابقة مع الواقع الحالي، قائلاً: « طلبت منهم مقارنة ما ورد في الدراسة الاستراتيجية مع البيانات المسجلة لدى المركز الوطني للموارد المائية، فتبين أن نسبة التطابق لا تتجاوز 10%، ما يعني أن معظم التوقعات كانت بعيدة عن الواقع».
وانتقد استمرار الوزارة في التعاقد مع الشركات ذاتها لتحديث الدراسة بملايين الدولارات «رغم فشلها في تحقيق أي نتائج علمية حقيقية»، معتبراً أن ذلك يعكس غياب الرؤية والإشراف الفني داخل الوزارة.
وشدد حمزة على أن «وزارة الموارد المائية تحتاج إلى إعادة هيكلة جذرية تتناسب مع المرحلة الحالية التي يشهد فيها العراق عجزاً مائياً متزايداً»، موضحاً أن «الوزارة بُنيت على هيكل تأسس في عام 1969، عندما كانت البلاد غنية بالمياه والأمطار الغزيرة، أما اليوم فنحن في مرحلة العوز المائي».
وأضاف أن على العراق أن يدرس بعمق سياسات تركيا وإيران المائية التي وُضعت منذ خمسين أو مئة عام، مبيناً أنه يعمل حالياً على إعداد دراسة استراتيجية لتحليل سياسات تلك الدول حتى عام 2050 .
وكشف حمزة عن تأسيسه مركزاً بحثياً معتمداً من مجلس الوزراء، يهدف إلى تحليل السياسات المائية الإقليمية باستخدام برامج ونماذج حاسوبية متقدمة، لكنه أكد أن «المركز بحاجة إلى تمويل جدي وتعاون مؤسسي ليباشر عمله بشكل فعلي».
وختم حمزة حديثه بالتأكيد على أن قضية المياه لم تعد مسألة اقتصادية فحسب، بل أصبحت قضية وجودية تمس حياة المواطنين ومصادر رزقهم وثرواتهم الحيوانية والزراعية.