علي عقلة عرسان
مستغرب إلى حدِّ الإدهاش، بمفهومه السلبي، كيف يعبث بعض الساسة ببعض البشر، وبدول ومؤسسات دولية.. هذا العبث العجيب الرهيب؟! فيدخلونهم من أزمة إلى أزمة، ومن ورطة إلى ورطة.. ويبقون فوق؟! يرفعون الأكاذيب شعارات ورايات، ويزينون أطماعهم وإرهابهم وعدوانهم وحقدهم، ليتراءى مطالب عادلة وحقَّانية وإنسانية؟! ويلمّعون إخفاقهم وعجزهم ويُظهرونه إنجازات، ويرتكبون الفظائع فيظهرونها ضرورات حُكْمٍ وحِكَما وعبقريات، ويوظفون السياسات والأوطان والإعلام لخدمة مصالحهم الخاصة، وتلميع مقاصدهم وتحسن صورهم.. ويعلنون ذلك ضرورات ومهارات واكتشافات لمخاطر.. ويصنفون الناس “أسود وأبيض.. موالين وأعداء”، ويحولون تصانيفهم تلك إلى أحكام قيمة، واتهامات، وعقوبات، وملاحقات، وحصار واضطهاد.. يمارسون الظلم والعَسف والإرهاب وكلَّ الرداءات الممكنة ويسوقونها أخلاقيات ووطنيات.. ويجرون الخلق إلى الصراعات والفتن والشقاء والمهالك، ويعيِّشونهم في الأزمات والضائقات والكوارث وأنواع الرُّعب، ويمرغونهم بالوحل والدم والعار في الحروب، ويستنزفون دماءهم، ويقتلون فيهم حب الحياة.. ويقدمون كل ذلك عبقريات وضرورات حكم، وقيم عدل، وتأسيسا للاستقرار ونشرا للازدهار، وحتى أنه فضائلهم الخالدات؟!.. وحينما تتورَّم أنانية بعضهم، و”يَتَشَمْرَخُ” طموحهم عظَمة، ويتفاقم إجرامهم طولا وعرضا، وتفوح روائح فسادهم، وتتعالى أصوات تطالب بمساءلته.. يتباهون بقدراتهم وبما يملكون من أسرار وأموال وثروات وقوة ونفوذ، فينشرون افتراءات، ويثيرون المخاوف، ويخادعون، ويخترعون المخاطر والأزمات، ويعبثون بالديمقراطية والقوانين والقيم والعقول، عبثَ الخبراء المحنكين في مجالات التزوير والتشويه والانتهاك.. يغشُّون ويكذبون، “يبْلُفون” الناس ويقتلون الناس، وكثيرا ما ينجحون في جر بلدان وشعوب إلى مستنقعات الذل ومناقع دم، وصولا إلى غاياتهم الخسيسة ومصالحهم الخاصة، وما يريدون تحقيقه من طموحات وأغراض، هي نتاج نفوس شريرة وإزمان أمراض؟!.. وتراهم، ومن ورائهم أساطين المال الذين يختارونهم ويوجهونهم ويستثمرون فيهم.. تراهم يتوارثون ذلك الإرث الخبيث كابرا عن كابر، ليس إرث الفروع عن الأصول بالضرورة، وإنما إرث الشر للشر، والخبث للخبث، والعنصري للعنصري، وكاره البشر لكاره البشر.. فيؤثِّلون الشر والمكر، ويخلقون المناخ الذي يكرس ذلك بوصفه لوازمَ حُكم، ومقومات أمن، ودواعي سلم، وعبقريات حكم، وحرصا على البلاد والعباد.
نماذج ذلك في زماننا كثيرة، ومن يظهرون في ملاعب السياسية منهم، يظهرون بصور فظَّة إلى أبعد الحدود.. لكنَّها محميَّة وبرَّاقة بصورة تثير دهشة من لا يعرف الأسرار وراء التلميع وخلف الأقنعة ـ الوجوه. ومن أكثر أولئك حركة وإضرارا هذه الأيام “تاجر العقارات الأميركي دونالد ترامب، وحليفه المتهم بالفساد بنيامين نتنياهو”.. وهذا الثنائي العجيب الذي يمثل دولة عُظمى وكيانا طفيليا دخيلا على أرض وشعب وثقافة وحضارة.. يكاد ينفرد بالعبث السياسي المقيت، على مستويات عدة:
١ – المستوى العالمي، حيث التفرُّد الشاذ في المواقف والقرارات والسياسات والممارسات، التي لا يسلم منها مصير بشري عام مثل “قضايا المناخ”، ولا علاقات دولية تثير المخاطر، ولا منظمات وقرارات دولية أيضا، مثل نقض الاتفاقيات والقرارات: “ملف إيران النووي، ومعاهدة الصواريخ القصيرة المدى، ومنظمة التجارة العالمية، اتفاق باريس حول المناخ والبيئة الحاضنة للبشر.. إلخ، كما لم تسلم منها معظم مناطق الكرة الأرضية، ودول وشعوب..
٢ – داخل حيز جغرافي ـ سياسي، يشغله أولئك العنصريون بالعدوان والقوة الغاشمة وإبادة الآخرين، بالاحتلال التوطُّن والاستيطان، “فلسطين مثلا”، حيث يملك أولئك الأشرار: مالا وقوة عسكرية وإعلاما واسع التأثير والانتشار، وأرواحا شريرة.. وكل ذلك يجعلهم قادرين على التدمير، والتدخل الشرير، والفعل السلبي الضار، وعلى تكريس وجودههم وزعزعة وجود الآخرين، وحتى إلغاء وجودهم.
٣ – في الوطن العربي والعالم الإسلامي، المُبْتَلَيَيْن بالصهيونية العنصرية، ومثيلتها في الولايات المتحدة وبأدواتها ومَن يواليها من “أبناء العروبة والإسلام”، بعد الابتلاء المديد بالاستعمار الأوروبي وغيره، وبما زرعه من تخلف وفتن وأتباع.. إذ إن كلا من تلك الفئتين ترى أنها عقيدة دينية عنصرية ـ صهيونية، أتباعها من اليهود والمتهودين والمتصهينين، هم” قومية ضيقة، ودين أضيق ويضيق”، وأنهم “شعب الله المُختار؟!” الذي كلُّ أفراده “فوق الناس.. الأغيار؟!”، فهم سلالة نازلة من الأعالي مع آدم وحواء، أمَّا الآخرون، “الغوييم”، فسلالة صاعدة من طين الأرض ووحلها وديدانها، وأنَّ أولئك “الأغيار” ما هم سوى مخلوقات أدنى مرتبة بكثير، من “شعب الرَّب”؟! جلَّ الربُّ عن افتراءاتهم.. ويرون أن “الأغيار” هم بحكم العبيد الأبديين لهم، والأنفس المحكوم عليها، تلك التي جعلها “الرَّب”؟! في مظهر بشري، لتكون لائقة بخدمة أبناء “شعب الله المُختار”؟!..
وتلك الفِرْية الأبشع عبر التاريخ البشري كله، وما ينبغي أن يدان ويجرَّم من مجتمع إنساني سوي، ذي قيم وأخلاق وحقوق ومنطق وفاعلية.. تلك الفِرْيَة التي يعرف، حتى بعض أتباعها، أنها أسقط ما جاء به البشر، فضلا عن معرفة كثير من الناس لذلك.. تستمر، وتحظى بما يجعلها ويجعل أتباعها خارج حدود القانون والمساءلة، ويبقيها من دون مواجهة وإدانة وتجريم، تشقي الآخرين بها وبمن يعتنقونها، ويعيثون في الأرض فسادا وإفسادا، فيدمرون وينشرون الإرهاب، ويستثمرون فيه، ويتهمون الآخرين به.
لم يكف هؤلاء العنصريون عن الإيذاء، والافتراء، والعدوان، والقتل، والإرهاب.. ولا عن ارتكاب الفظائع والتزوير والتشويه.. وكل تاريخهم نقائص، ومن آخر ما كان منهم من عدوان وافتراء وإجرام، ضد شعبنا وضد بعض بلدان وطننا العربي، لا سيما فلسطين وسوريا ولبنان، نشير إلى الآتي:
١ – “فشل الافتراء الأميركي ـ الإسرائيلي، الذي طبل له “السفير الإسرائيلي داني دانون”، وقدمت بشأنه نيكي هايلي، باسم الإدارة الأميركية، إدارة ترامب، مشروع قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة، يدين حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، لإطلاقها صواريخ على “إسرائيل”.. إذ فشل مشروع القرار يوم الخميس ٦/١٢/٢٠١٨، لعدم حصوله على أغلبية الثلثين اللازمة لإقراره.. وقد أيدت مشروع القرار الأميركي 87 دولة، وعارضته 57 دولة، وامتنعت 33 دولة عن التصويت. والعجيب في هذه الفِرية الصهيونية وأمثالها، أن المعتدي نتنياهو الذي أرسل فريق قتَلَة، لاغتيال قادة من حماس داخل قطاع غزة، وجلس في سُرادق قوس النصر في باريس، مثل ثعلب ماكر، مشاركا في الاحتفال العالمي بالذكرى المئة لبدء الهدنة التي أنهت الحرب العالمية الأولى.. أرسلهم في تسلل إرهابيّ ـ إجرامي مكشوف.. اكتشفته قوات المقاومة الفلسطينية وردت عليه.. العجيب أنه هو الذي يطالب بإدانة من اعتدى عليهم، لأنهم دافعوا عن أنفسهم.. فمن وجهة نظره ونظر شركائه العنصريين الإرهابيين، أن على العالم أن يدين إطلاق الفلسطينيين صواريخ، “محدودة القدرة”، دفاعا عن أنفسهم، وهم في وطنهم.. لأنهم بذلك منعوا إرهابيي “الشعب المختار؟!” من تنفيذ إجرامهم وقتل “الأغيار”، من دون أية عوائق؟! إذ هذا من حقهم؟! هذا هو منطق “ترامب ـ نتنياهو”، منطق “هايلي ـ دانون”، ومنطق من صوتوا إلى جانب هذا المشروع الفضيحة؟!
٢ – العدوان “الإسرائيلي” المستمر على سوريا، وقصف مواقع في العاصمة دمشق وفي غيرها من الأماكن.. وقد زاد ذلك على ١٢٠ عدوانا، خلال الحرب/الكارثة التي تدور في سوريا منذ ثماني سنوات. وكان آخر عدوان في ٢٩/١١/٢٠١٨ حيث تعرَّضت عدة مواقع للقصف بصواريخ “إسرائيل”، منها: مطار دمشق، والمزَّة، والكسوة، والزبداني، والقنيطرة، وإزرع.. وتصدت لها المضادات السورية، لكن لم تشارك صواريخ S300 بالرد لأسباب يقدرها العارفون بالأمر. وإلى جانب الاحتلال الإسرائيلي للجولان منذ الرابع من حزيران ١٩٦٧ وحتى الآن، ومحاولات الضم وتغيير الجغرافية السكانية، وتهويد المنطقة السورية المحتلة، والغطرسة الصهيونية المستمرة.. إلى جانب ذلك، يقوم الشريك الأميركي باحتلال شرق نهر الفرات، ويؤسس هناك لإقامة كيان “كردي” موالٍ له ولإسرائيل، في محاولة مستمرة لتمزيق سوريا، وتعميق الصراعات بين أبنائها.. في خدمة مكشوفة لكيان الإرهاب العنصري في تل أبيب.
٣ – وآخر ما نذكره هنا، وهو غيضٌ من فيض العدوان والافتراء العنصري “الإسرائيلي”، المؤيَّد أميركيا بقوة، وبمبادرة “على الريحة” كما يقولون، من الموالي والمؤيد جون بولتون، المتشدد صهيونيا أكثر من فريدمان، سفير ترامب في كيان الاحتلال “إسرائيل”.. هو موضوع اكتشاف “أنفاق استرتيجية” في جنوب لبنان، إلى الجنوب الغربي من قرية المطِلَّة الفلسطينية، شمال فلسطين المحتلة.. حيث يقول نتنياهو وآيزنكوت، إن حزب الله يحفرها إمَّا ليحتل الجليل، وإمَّا لتتسلل منها عناصره في مفاجأة عسكرية، إبَّان حرب قادمة في الشّمال، لن تتوقف عند حدود استهداف حزب الله وإيران في لبنان، بل ستشمل لبنان كله.
ويتصاعد هذا الأمر الآن “عسكريا وسياسيا”، وتختلط الأمور حوله عن عمد، وتعلن “إسرائيل” أنها ستقدم شكوى حول الموضوع إلى مجلس الأمن الدولي، بوصف ذلك مسا صريحا بالقرار ١٧٠١ الذي تتابع تنفيذه قوة دولية تراقب الوضع على طول الخط الأزرق بين لبنان و”إسرائيل”.
ويبدو من القرائن، والتوقيت، والتفاعلات، والتصريحات حتى داخل الكيان الإسرائيلي نفسه، أن الفاسد نتنياهو الذي رَفعت الشرطة “الإسرائيلية” ضده وضد زوجته سارة تقريرا، حول ما يُعرَف بالقضية “٤٠٠٠”، وهي قضية رشوة وتبادل منافع، وتلميع صورته في الإعلام من موقع “واللاه” الذي يملكه الثري اليهودي “ألوفيتش”، شريكه في المنافع.. أن نتنياهو يحاول أن يصرف النظر عن نفسه وعن زوجته وعن القضايا المرفوعة ضده ومنها أيضا قضيتان تعرفان هناك باسم القضية “٢٠٠٠” والقضية “١٠٠٠”.. وأن يشغل الرأي العام الداخلي، والعالمي أيضا بقضية قد تقود إلى حرب ستكون كارثية..
إن عالم السياسة العنصرية، سياسة القوة الغاشمة، والإرهاب، والافتراء، واستباحة الآخرين.. ذاك العالم الذي تنخره الغطرسة الصهيونية ـ الأميركية، ويعتمِد القوة الغاشمة والتدمير والاستباحة والاستثمار في الفتن والإرهاب، ويستهدف الآخرين لكونهم “أغيار”، ويستبيح أن يملك من القوة ما يمتد بين المحرَّم دوليا والمباح دوليا.. ويمنع الآخرين الذين يحتل أرضهم، ويقتلهم، ويستهدفهم بالعدوان والاحتلال والاستيطان والعنصرية، وبالفِتَن والحروب والشرور، ليمنعهم من رفع رؤوسهم، ومن امتلاك قوة يدافعون بها عن أنفسهم ومصالحهم في أوطانهم.. هو عالم فاسد مفسِد شرير وخطير.. وينبغي أن يواجَه بشكل جماعي من البشر المستَهدفين بالعدوان والإرهاب والاستباحة، وممن يعنيهم العدل وحفظ الأمن والسلم الدوليين، وتعنيهم الحرية وحقوق الإنسان، واحترام القانون والعقل والإنسان.. وأن يقف بوجهه الأحرارُ والشرفاء والطيبيون والأخلاقيون الذين تعنيهم حياة كريمة وآمنة للإنسان، وعدل يحفظه ويرفع مكانته.. ويعنيهم أمن وسلم واستقرار وازدهار ومصير مشترك لبني البشر، في أرض البشر.. ذلك واجب، وقد يكون في هذه الظروف، فرض عين، وليس فرض كفاية.
وأسأل الله سبحانه، أن يهدي الناس إلى ذلك الذي يحميهم ويحييهم ويحيي بهم.. وهو على كل شيءٍ قدير.