مقالات

موريس عايق

 
 
عن التنوير الراديكالي وثورة العقل
 
 
يقدم جوناثان إسرائيل في كتابه «ثورة العقل: التنوير الراديكالي والأصول الثقافية للديموقراطية الحديثة» أطروحة مغايرة ومضادة للسائد في السجال حول التنوير، كما يبدو في السجال بين أنصار الحداثة وما بعدها.
لا يكتفي إسرائيل بالتمييز المتداول بين عوائل مختلفة للتنوير وإن احتفظت بصلة قربى تحت مظلته، بل إنه يقدم هذه العوائل باعتبارها تقاليد متباينة وحتى متضادة، على رغم بعض السمات المشتركة بينها، مثل مركزية العقل والإيمان بالتقدم. فهو يميز بين التنوير الراديكالي، والذي يشكل الموسوعيون الفرنسيون كديدرو وهولباخ وهلفيتوس رافده الأبرز، والتنوير المعتدل الذي يضم الأسماء الأشهر كفولتير وهيوم وفرغسون وحتى كانط، وكذلك التقليد المنتسب إلى جان جاك روسو.
يمتاز التنوير الراديكالي بسمات مغايرة تأسست على تجذير طرحه مقارنة بالتنوير المعتدل، حيث إنه يسلم بالسيادة النهائية للعقل كحكم على كل شؤون الحياة من دون استثناء، مثل السلطة والقانون والتنظيم الاجتماعي، ويدافع عن المساواة التامة بين البشر بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والجنسية والدينية وحتى الطبقية، وعن التسامح الذي يشمل الجميع وحرية الرأي والتعبير غير المقيدة. كما أنه يرفض التراتبيات الاجتماعية، ممثلة في الأرستقراطية والكهنوت الذي لا يقتصر على الكنيسة وحسب بل يشمل كل سلطة دينية، معتبراً إياها مسؤولةً عن الظلم والاضطهاد الاجتماعي ومتعارضة مع أهداف التقدم والسعادة الإنسانيين، اللذين لا يتحققان إلا عبر الخضوع للعقل.
لهذا يعارض التنوير الراديكالي نظيره المعتدل لكونه لم يدرك الحاجة الماسة لإصلاح النظام الاجتماعي، بل حتى ضرورة الثورة عليه. فلن نجد لدى التنوير المعتدل أية برامج إصلاح اجتماعية حقيقية وموازية لتلك التي قدمها أنصار التنوير الراديكالي مثل جوزف بريستلي وريتشارد برايس.
مثلاً وعلى خلاف فولتير ومونتسكيو، رفض التنوير الراديكالي النموذج البريطاني المختلط للحكم والقائم على مزيج من الأرستقراطية وتقسيم السلطات، ودافع عن النظام الديموقراطي الجمهوري باعتباره الشكل الوحيد للحكم العادل والعقلاني. كذلك رفض التنوير الراديكالي الجمهوريات التي تتحكم فيها قلة، سواء أكانوا الأغنياء أو الوجهاء، باعتبارها أنظمة تفسد النظام التمثيلي. وإلى جانب دفاع التنوير الراديكالي عن النظام الجمهوري، فإنه رفض آراء روسو بصدد الإرادة العامة التي لا تقبل التقسيم واعتبرها مشروعاً للطغيان. وهذا الخلاف مع روسو سيظهر لاحقاً وفي شكل جلي في نزاعات الثورة الفرنسية بين ممثلي التنوير الراديكالي وممثلي التقليد الروسوي وحكم الإرهاب.
يبين إسرائيل الدور السياسي الحاسم الذي لعبه التنوير الراديكالي في التمهيد للثورات الكبرى، الأميركية والهولندية والفرنسية، بتحقيقه هيمنة للقيم التي يدعو إليها من خلال النشاط الدعائي والتحريضي الذي قام به أنصاره عبر الجرائد والنقاشات والصالونات، وأيضاً عبر الجمعيات السرية التي انتشرت في كل مكان من أوروبا مثل جماعة «المتنورون»، أو حتى من خلال التأثير المباشر في أنظمة الحكم ذاتها ودفعها إلى تبني إصلاحات راديكالية بفضل نفوذ عدد من أنصار التنوير الراديكالي، مثل يوهان فريديرك شتروينسه الطبيب الألماني في بلاط كريستيان السابع ملك الدنمارك. أطروحة إسرائيل المركزية تقول إن التنوير الراديكالي نجح في إنجاز «ثورة عقلية»، من دونها ما كان لهذه الثورات أن تصبح الثورات التي نعرفها فتغير النظام الاجتماعي وتؤسس للديموقراطيات الحديثة، بل ظلت مجرد تمردات ككل ما سبقها.
وصل أنصار التقاليد التنويرية المتباينة إلى القطيعة التامة بحدود 1770، وعكس هذا الصدام ذاته على المستوى السياسي في النزاعات التي حصلت بين أنصارهما خلال الفترات الثورية. فقد أنشأ مناصرو التنوير الراديكالي خلال الثورة الأميركية، كبعض جماعات الكويكرز وبنجامين روش، الجماعات المناهضة للعبودية، واصطدموا لاحقاً مع آباء الاستقلال في هذا الشأن. كذلك كانت الحال مع الثورة الفرنسية، والتي ساد مناصرو التنوير الراديكالي حقبتها الأولى، قبل أن يتسلمها اليعاقبة، مناصرو روسو، ويفتتحوا عهد الإرهاب.
يُدعّم إسرائيل أطروحته حول الخلاف بين التنوير الراديكالي وخصومه من خلال مناقشة مجموعة من الموضوعات، والتي تتباين بصددها مواقف التنوير الراديكالي والمعتدل في شكل حاسم، ويبدأها بالمسألة المركزية، الميتافيزيقيا. فالتنوير الراديكالي قام على فلسفة باروخ اسبينوزا التي تنطلق من أن العالم له جوهر واحد، على الضد من مثنوية المادة والروح التي اعتمدها التنوير المعتدل. وعلى رغم أن الماديين الفرنسيين فهموا الجوهر الواحد في شكل مادي، فإن العديد من أنصار التنوير الراديكالي لم يقتصروا على هذا الفهم المادي، وقد تجلى هذا مع الكنيسة التوحيدية الإنكليزية والتي كان العديد من مؤيديها جزءاً أساسياً من تقليد التنوير الراديكالي مثل جوزف بريستلي. قد يبدو الموقف الميتافيزيقي بعيداً من السياسة، إلا أن إسرائيل يكشف عن مركزيته في بلورة التباينات الحاسمة بصدد المواقف السياسية والأخلاقية بين تقليدي التنوير، المعتدل والراديكالي. فجون لوك، المعتدل، اعترف فقط بالمساواة الروحية بين البشر أمام الله وقبِل بالتفاوت في الحياة الواقعية اعتماداً على الموقف المثنوي الذي يتبناه، وقد كان لوك مساهماً في الشركة الملكية الأفريقية وشركة باهاماس، اللتين تعملان في قطاعات تعتمد على العبيد. في المقابل، رفض الراديكاليون أي تجزئة لفكرة المساواة انطلاقاً من واحديتهم، فعارضوا العبودية في شكل تام.
الحرب والسلم شكلا نقطة خلاف أخرى بين تقاليد التنوير. ففي حين رفض معظم المعتدلين فكرة السلم الأبدي باعتبارها مجرد حلم، فيما عدا كانط الذي دافع عن هذا الإمكان وإن رهنه بالتطور التدريجي وموافقة الحكومات الأوروبية، فقد اعتبر الراديكاليون السلم الأبدي مسألة ممكنة ومتعلقة بحكم العقل. فالحروب ليست إلا نتاج الأنظمة المستبدة وغير العقلانية، ولكن ما أن تتم إقامة أنظمة عقلانية، ديموقراطية وجمهورية، حتى تنتفي أسباب الحرب، وهذا بدوره يتطلب ثورة ضد الأنظمة الحاكمة المسؤولة عن معاناة البشر.
أيضاً، مثلت مسألة الأخلاق نقطة خلاف أخرى. فقد تبنى التنوير الإسكتلندي الموقف القائل بعدم إمكان تأسيس الأخلاق على العقل وضرورة الدين من أجل تأسيس الأخلاق، بالمقابل عارض الراديكاليون أيضاً هذا الموقف وأكدوا مركزية ومرجعية العقل في تأسيس الأخلاقي.
كما اختلفوا بصدد المسألة الاقتصادية وتفاوت الثروات بين البشر، حيث اعتبر التنوير المعتدل أن التفاوت الاقتصادي مسألة طبيعية تعود إلى دور السوق. وفي حين لم يكن الراديكاليون اشتراكيين، بل على العكس عارضوهم، إلا أنهم اعتبروا أن التفاوت الذي شهدوه لا يعود إلى الطبيعة، إنما يتحمل النظام الاجتماعي الظالم مسؤوليته.
تمكن صياغة التصور المركزي للتنوير الراديكالي على الشكل التالي: تأسيساً على مبدأ الجوهر الواحد للعالم، فإنه يجب رفض أي تمييز بين البشر في شكل كامل وتحت أية ذريعة والقبول بحرية الرأي والتسامح والاحترام التامين، ومن جهة أخرى يجب رفض أي نظام لا يعتبر العقل المرجع الأساسي الذي نحتكم إليه، وهذا يتضمن رفض كل السلطات التي تستمد سلطتها مما هو غير عقلي. وعليه دافع التنوير الراديكالي عن حق البشر في مواجهة هذه الأنظمة والثورة عليها من أجل تحقيق أنظمة عقلانية تسعى إلى تحقيق التقدم والسعادة للبشر جميعاً، والتي ستكون بدورها وبالضرورة أنظمة ديموقراطية وجمهورية.
لهذا، يرى إسرائيل أن التنوير الراديكالي يشكل الأساس لظهور الديموقراطية المعاصرة وقيمها، المساواة والحرية الفردية، وذلك بفضل الثورة العقلية التي أنجزها.
وهنا تتجلى مساهمة إسرائيل اللافتة في النقاش الحالي، فتبعاً للتصور الذي يقدمه للتنوير الراديكالي يمكن الادعاء أن الاعتراضات التي وجهت للتنوير، لجهة عدم اتساقه وازدواجيته في الموقف من الاستعمار والعبودية، أو لجهة أنه يقود إلى الإرهاب والحكم الشمولي، كما تجلى هذا في الثورة الفرنسية ومشاريع الهندسة الاجتماعية اللاحقة، ليست في حقيقتها إلا نقداً للتنوير المعتدل أو تيار روسو ولا تمس بأطروحات التيار الراديكالي للتنوير، خصم التقاليد التنويرية الأخرى في هذه المسائل، والذي يعود إليه الفضل في نشوء الديموقراطية الحديثة.

admin