تيمور دزافاروف: لم أفقد إيماني بالنصر ولست خائفاً لكنني فعلاً حزين
الموسيقي الأوكراني تيمور دزافاروف الذي التحق بالجيش دفاعاً عن وطنه (صفحة الموسيقي – فيسبوك)
قبل عام تماماً، تحول تيمور دزافاروف عازف موسيقى أوكراني معروف باسم جون أوبجكت (Timur Dzhafarov, John Object) إلى ونستن، جندي في الجيش الأوكراني ترك حبيبته وموسيقاه وجمهوره وحمل البندقية ليدافع عن وطنه في مواجهة الهجوم الروسي. ثلاثة أسماء لرجل واحد وثلاث قصص مختلفة تجبر الفنان الواعد على التحول إلى مقاتل غاضب.
في الـ27 من عمره تحول دزافاروف من موسيقي وعاشق إلى جندي، ليقول عن نفسه، “هذا ما صنعته روسيا بي، حولتني إلى بذلة عسكرية وسلاح“.
الموسيقي الأوكراني خلال إحدى حفلاته (صفحة الموسيقي – فيسبوك)
دخل دزافاروف الجيش الأوكراني في 26 فبراير (شباط) 2022 أي بعد يومين من إعلان روسيا الحرب على أوكرانيا وراح منذ ذلك اليوم يكتب يومياته واصفاً فيها مشاعر التعب والغضب والخوف واليأس، أخذ يحاول أن يلبس أهوال الحرب ثوب الكلمات وأن يبث في كلماته الحسرة على الحياة التي كان ليعيشها، حياة كانت لتستمر بطبيعية لولا الجنون الروسي الذي اندلع قبل عام.
بعد يومين من إعلان روسيا الحرب على جارتها أوكرانيا انضم دزافاروف إلى القتال واستبدل قيثارته ببندقية وتحول روتينه اليومي بشكل جذري، فبات يستيقظ عند الساعة الخامسة صباحاً على صفارات الإنذار ويهرع إلى بندقيته ويتبع رفاقه إلى الملاجئ أو إلى إتمام مهمات عسكرية مطلوبة منه.
ما قبل الإلتحاق بالجيش الأوكراني (صفحة الموسيقي – فيسبوك)
منذ دخوله في الجيش الأوكراني راح هذا الموسيقي الحالم الطموح يكتب يومياته، يوميات جندي أصبحه، لكنه في الوقت نفسه غريب عنه لا يعرف أن يتماهى معه وحل محله إلى الأبد. قبل سنة واحدة فقط كان تيمور دزافاروف شاباً موهوباً حالماً مغرماً. قبل سنة واحدة فقط أصبح جندياً مليئاً بالغضب والحنق. هنا بعض من يومياته المترجمة عن الفرنسية التي نشرت بها في “ليبراسيون”.
26 فبراير/ شباط 2022 الساعة السابعة ودقيقتان مساءً
لقد انضممت اليوم إلى قوات الدفاع الأوكرانية ولم أعد في كييف. من اليوم فصاعداً لن أملك كثيراً من الوقت ولا الإنترنت ولن يكون هناك هاتف في حوزتي طوال الوقت. من المرجح إذاً ألا أتمكن من التواصل مع أحد أو نقل آخر الأخبار. لا تقلقوا بشأني فأنا أوكراني ونحن شعب قوي ومستقل وأنا متأكد من أننا سننتصر. أرجوكم أن تساندونا وأن تدعمونا لكي نتمكن من إنهاء هذه الحرب بأسرع وقت ممكن. إعزلوا روسيا سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعقائدياً ولا تظهروا ناحيتها أي شعور بالشفقة. فلنحيا، فلتحيا أوكرانيا والسلام.
28 فبراير/ شباط 2022 الساعة 11:18 مساءً
في الجندية الحياة بسيطة سطحية. أنا هنا لأنني أحب الحياة، حياتي وحياة الآخرين وهذا هو بالتحديد الهدف من قيام الجيش الأوكراني، حماية الحياة والحرص على طولها وبقائها. يا للسخرية! أن تجبرنا روسيا على الدفاع عن حياتنا بأسلحة موت.
صورته العسكرية (صفحة فيسبوك)
حصلت اليوم على اسمي الحربي ونستن. يحمل هذا الاسم رمزية تعود للحرب العالمية الثانية العظيمة. بطريقة ما، عقد بيننا الأوباش الروس صلة حميمة وخلقوا بيننا تقديراً متبادلاً نحن الذين لم نكن نعرف بعضنا بعضاً. لا مكان بيننا للجدال والمكائد، هناك فقط الثقة بأننا سننتصر. ويا له من يوم مجيد يوم النصر! لقد صرف الروس يومهم في ارتكاب جرائم حرب تتخطى الخيال، قتلوا أطفالنا، تنكروا ببذلتنا العسكرية، روجوا المعلومات المغلوطة، وعلى رغم ذلك ما زالوا يهزمون. روسيا دولة بلا شرف وبلا كرامة وبلا أخلاق والروس هم حثالة كريهة.
1 مارس/ آذار 2022 الساعة 3:31 صباحاً
في الواقع نعم، أظن أنه يجب على الجميع التوقف عن التعامل مع الروس مهما كان نطاق تعاملهم معهم، والثقافة ضمناً. أخرجوهم من المهرجانات، ارفضوا التعاون معهم، لا تروجوا لأعمالهم. إن أي نجاح حالي لفنانين روس هو تمويل للقنابل التي يرمون بها على رؤوس الذين أحبهم. هكذا هو نظام هذه الدولة. لا أجدها أزمة حقيقية أن يفوت عازف روسي على نفسه حفلة فها أنا أفوت على نفسي مئات الحفلات اللعينة وأخسر عملي لأتعرض للقصف بدلاً من ذلك.
4 مارس/ آذار 2022 الساعة 10:30 مساءً
أنا منهك لدرجة تمنعني عن تقديم أي جديد. لقد كان يوم أمس من أكثر أيام حياتي إرهاقاً. يبدو أنني خسرت حس الفكاهة وباتت النكات تثير الضيق في نفسي. أنا أعجز عن الاستمرار على هذه الحال إنما يجب أن أستمر وسوف أستمر.
عجزت روسيا عن السيطرة على أي مدينة كبرى حتى الآن (على رغم الحال المحرجة التي هي فيها الآن مدينة خيرسون). وبدلاً من الحرب الخاطفة التي كان الروس يخططون لها، تمكنوا من وضع يدهم على محطة للطاقة النووية أكبر حجماً من محطة تشيرنوبيل. لقد أطلقوا النار على هذه المحطة مما تسبب في إشعال حريق فيها. هذه المحطة، إن هي انفجرت، فسيكون ذلك أخطر بست مرات من انفجار محطة تشيرنوبيل وسيكون أسوأ كارثة نووية في تاريخ البشرية. أوكرانيا بأكملها وقسم هائل من أوروبا سيصبحان أرضاً قاحلة يستحيل العيش فيها. وها أنا أكرر هنا ما أقوله دوماً، ما إن تظنوا أن الروس لا يمكنهم أن يكونوا أكثر وحشية ودناءة يجدون طريقة ليثبتوا لكم العكس. أمقت هذا الوضع بأسره. لم أفقد إيماني بالنصر ولست خائفاً ولكنني فعلاً حزين. لقد انشطرت حياتي شطرين اثنين.
11 مارس/ آذار 2022 الساعة 5:15 بعد الظهر
أشعر بأنني منهك، عاجز عن الكتابة إنما يجب أن أكتب. ما زال المدنيون يتعرضون للقصف ويقتلون كل يوم. إن مدينة ماريوبول محاصرة والمساعدات لا تصل إلى الداخل. هناك طيار روسي أسير اعترف أن الطيارين تلقوا الأوامر بقصف المدنيين. […] أنا الآن منتظم تماماً في الجيش الأوكراني وهو أمر صعب وموحش إنما لا خيار أمامي. أنا في حاجة إلى أن تنتهي هذه الحرب بأسرع وقت ممكن، أنا في حاجة إلى أن أستعيد صحتي العقلية. إن الحياة شيء ثمين جداً لكن العالم يتفرج علينا نموت ولا يحرك إصبعاً ليساعدنا. كم من الوقت علينا أن ننتظر بعد؟
هذا الصباح، تم قصف القاعدة العسكرية التي كنت فيها سابقاً. هناك جرحى إنما لا معلومات حول عدد الضحايا حتى الآن. أعرف أن هذه الأخبار غير مسلية وغير مثيرة للاهتمام وكم أتمنى أن أكتب عن الموسيقى، كم أتمنى القيام بذلك فعلاً. كم أتمنى أن أؤلف مقطوعات وأن أؤدي في حفلات وألا أكون في هذا الوضع. إنما هذا ما جنته علي روسيا، حولتني إلى بذلة عسكرية وسلاح، حولتني إلى هدف. أنا لست هكذا، نحن لسنا هكذا إنما فرض علينا القتال لنحيا.
8 مايو/ أيار 2022 الساعة 10:15 صباحاً
أنا حي لكنني لم أشعر يوماً بهذا القدر من التعاسة. أكره السخرية والتشاؤم وها قد أصبحتهما. ما زلت حياً لكنني لا أملك الوقت ولا القوة ولا الرغبة في التحدث إلى أحد لأنني للأسف أعرف ما سيقولونه لي، كل ما أقوم به لا قيمة له، شكراً لكم. لن أرى مجدداً أوروبا أو دول العالم الحر أو دول حلف “الناتو” أو دول الاتحاد الأوروبي أو غيرها بالطريقة نفسها. لم يكن كلامهم سوى هراء ومجموعة أكاذيب وحيلاً سياسية. قولوا عني إنني رجل حالم لكنني توقعت أنه عندما يحتل الفاشيون دولة وعندما يبدأون بالتنكيل بأهلها وقتل كل من يلتقونه سيكون رد فعل دول العالم مختلفاً عن مجرد “التعبير عن قلقها إزاء ذلك” وأقوى من مجرد منحنا بعض البنادق.
3 يونيو/ حزيران الساعة 06:50 مساءً
لقد مر مئة يوم على بداية هذه الحرب، أسوأ مئة يوم في حياتي. إذا قارنا هذه الأيام المئة بالمآسي العادية والموت والإحباط والانفصال لبدت هذه الأخيرة هموماً باهتة. وصلني اليوم خبر مفاده بأن ثمانية رجال من الفرقة القديمة التي كنت فيها أعدموا بصمت وسرعة من دون تردد ومن دون منحهم الوقت للدفاع عن أنفسهم. إن أي إجراءات احترازية ممكنة إزاء مصير مماثل تبدو عبثية. يبدو أن العبرة هي ألا ينام المرء أبداً وألا يضع سلاحه من يده بتاتاً. يعلق بعض الأوروبيين على هذا الخبر قائلين، “نتمنى لو كان بإمكاننا القيام بأي شيء”. يفكرون أنهم لا يستطيعون القيام بأي شيء لنا. ماذا كانوا ليفعلوا لو كانوا مكاننا؟ لقد اخترق الروس حدودنا وشرعوا في القتل وكسر القوانين فلنعاملهم بالمثل. يمكنكم أن تدعوا رجال السياسة في دولكم وأن تقولوا لهم إنكم لا تريدون رؤيتنا نموت، إننا في حاجة إلى منطقة حظر جوي وإلى مضادات طيران وإنكم لا تريدون الغاز الروسي ولا النفط الروسي ولا أي شيء من روسيا.
وأنتم أيها الألمان قولوا لهم إنكم لا تقبلون بأن يكذب مستشاركم حول إرسال أسلحة ثقيلة لن تصل يوماً، قولوا لهم إنكم لا تقبلون بأن تكذب ألمانيا. لأنكم مهما حصل وفي آخر النهار وإن فشلتم في مسعاكم فلن تجدوا أنفسكم في بذلة عسكرية في حقل معتم وقد نحرت أعناقكم من دون سبب. هذه حالي أنا وحدي.
30 يناير/ كانون الثاني 2023 الساعة 09:04 مساءً
السنة 2022 للميلاد أو السنة التي وقعت فيها أحداث مهولة لكل الذين أعرفهم. للأسف لم أعد عازف موسيقى من كييف بأوكرانيا. لست فقيراً ولا جزءاً من ثقافة دونية ولا مشهوراً. لست أعزب ولا مرتبطاً، لست عاشقاً ولا مفطور القلب. أنا ببساطة لا أعرف ما أصبحت عليه. أشعر في الوقت نفسه بأنني أقوى وأكثر تركيزاً مما كنت عليه في أي مرحلة أخرى من حياتي إنما بأنني أيضاً أكثر تحطماً من الداخل من أي وقت سبق. إن الحرب والقرب من الموت يمحوان الأمور السطحية ويكشفان للمرء حقيقته الكامنة داخله. […] كل يوم تدمر قطعة مني إنما في مكان ما أشعر بأنه سيأتي يوم ولن يكون هناك ألم وسيصبح القلب صافياً والواقع جميلاً.