موكب الأشقياء… ما الذي نعارضه حين نرفض العولمة؟

1

الاستهلاك الذي صاحبها ألهانا عن التفكير فيها ومنعنا أن نؤمن بها أو نكفر ولهذا بقيت هشة بغير جذور

أحمد شافعي  كاتب ومترجم 

كل قطعة أرض قابلة للسكنى في هذا الكوكب عرفت من قبل كيف تطعم ساكنيها، لكن هذا يبدو الآن أقرب إلى أحلام الشعراء (أ ف ب)

يشيع بيننا شيوع #الأقوال_المأثورة والأمثال السائرة أن #التاريخ_يعيد_نفسه. نقولها كلما رأينا الأمور تؤول إلى مثل ما آلت إليه مرات في ماضينا المدون، فلم نستخلص درساً، ولم نستفد من تجربة قديمة خبرة نكون بها أكثر حنكة في التعامل مع #التجارب_الجديدة.

وربما يكون هذا، أو لا يكون، هو دأب التاريخ حقاً، لكن ربما كنا نحن الذين نتكرر، أو بالأحرى نحن الذين لا نتغير، أو لنقلها على نحو أوسع صدراً وأكثر احتراماً. لعل في البشر خصالاً عميقة التجذر، فقد تتغير الواجهات، وتبقى هذه الخصال على حالها حاكمة لأفعالنا، فإذا بنا نكرر ردود فعلنا القديمة تجاه المواقف الجديدة المماثلة.

أقول إن هذا التفسير أوسع صدراً وأكثر احتراماً، لأنه تفسير لا يسارع إلى لومنا لأنفسنا، ولأنه، وهذا وهو الأهم، دعوة إلى البحث عن هذه الخصال أو النزعات العميقة ودرسها وفهمها واحترامها، باعتبار أنها نحن.

قوافل المنصهرين

قبل أيام قليلة نشر الباحثان الأميركيان جيري هار وريكاردو إرنست، في “ناشونال إنتريست” 29 يناير (كانون الثاني) 2023، مقالة يميزان فيها بين مصطلحين هما “العولمية” globalism و”العولمة” globalization. كتبا أن “العولمية أيديولوجية، أو مجموعة راسخة من المعتقدات بأنه يجب تمكين السلع والخدمات والناس من الحركة بحرية عبر الحدود، وضرورة أن توضع الاتفاقات التجارية ترسيخاً للترابط والاعتماد المتبادل [بين البلاد]. أما العولمة في المقابل فهي العملية الفعلية لما يجري تبادله عبر الحدود من المنتجات والخدمات والناس والمعلومات والتمويل. وهي عملية مرنة وسلسة، وإن خضعت كثيراً لتأثيرات عوامل خارجية قد تكون وباء أو كارثة طبيعية أو تغيراً مناخياً واضطراباً مدنياً أو سلامة عامة”.

كانت الغاية من هذا التمييز هي مواجهة اتجاه بدأ منذ بضع سنوات ويذهب إلى أن العولمة تنتهي، أو تحتضر، ما لم تكن ماتت. وما أراد الباحثان قوله بمقالتهما القصيرة هو أن العولمة لم تزل حاضرة وقوية، واستطاعا التدليل على ذلك ببعض الأرقام التي تشير إلى قيام شركات عملاقة من الغرب والشرق أخيراً بنقل بعض أعمالها إلى بلاد بعيدة، أو زيادة حجم وقيمة التبادل التجاري العالمي ومثل ذلك من المظاهر التي تؤكد أن العولمة بخير. أما العولمية فهي التي قد تكون موضع جدال، أو لنقل إنها موضع مراجعة.

اقرأ المزيد

قد يكون الأمر كذلك، من دون أن يعني في تقديري أن العولمة بخير. فلو أن الإيمان بالفكرة، أي العولمية، بات موضع مراجعة، فبديهي أن الممارسة العملية للفكرة، أي العولمة، لن تلبث أن تتأثر.

والحق أن القول بأفول العولمة قديم بعض الشيء، فهو لم يبدأ بانتشار وباء “كوفيد” قبل سنوات قليلة، وإن اكتسب بسببه وبعده زخماً كبيراً، بل إننا نوشك أن نخلص من كتاب حديث النشر إلى أن أفول العولمة ربما هو أسبق من ظهور العولمة الأخير نفسه. وأقول الظهور الأخير لأنني أرى أن العولمة كانت حاضرة قبل أن تحمل اسمها هذا، ربما على مدار التاريخ كله بدرجات متفاوتة، وإن بغير اسمها ذلك. وكما أن العولمة قديمة، فإن مقاومتها قديمة، وكراهيتها قديمة، والانحياز لها أيضاً قديم، ربما لأن التاريخ يكرر نفسه، أو ربما لأن بالبشر خصالاً عميقة ونزعات أصيلة تحملهم على أن يكرروا مواقفهم القديمة كلما تشابهت الظروف.

صدر أخيراً كتاب (ضد العالم: مناهضة العولمية والسياسات الشعبية بين الحربين العالميتين) للمؤرخة تارا زهرة، وهي أستاذ تاريخ شرق أوروبا في جامعة شيكاغو، وكتابها الجديد (ضد العالم) دراسة لمناهضة العولميةantiglobalism ، وبحث للسياسات الوطنية في فترة ما بين الحربين العالميتين اللتين “أنهت أولاهما حقبة طويلة وحيوية من التبادل التجاري الدولي والهجرة”، بحسب ما تكتب جينيفر سالاي في استعراضها للكتاب، “نيويورك تايمز” 25 يناير 2023.

الحديث هنا، كما نرى من عنوان الكتاب الفرعي، يتناول مناهضة العولمية في فترة ما بين الحربين العالميتين، فليس الحديث إذاً عن الظاهرة التي قد يحسب كثير من القراء أنها نتاج العقود القليلة الماضية منذ نهاية الحرب الباردة، وإنما الحديث عن الظاهرة في تجل قديم لها. والأمر الآخر المثير للاهتمام هو أن الكتاب يتناول فترة ما بين الحربين العالميين تناولاً يبدو جديداً، لا لهذا القارئ غير المتخصص فقط، وإنما لأغلب من تصدوا للكتابة عن كتاب زهرة من المتخصصين.

يقدم دانيال ستايمتز جينكنز الأستاذ المساعد بكلية الدراسات الاجتاعية في جامعة “وسليان”، للحوار الذي أجراه مع تارا زهرة حول كتابها الجديد، “ذي نيشن” 31 يناير 2023، بقوله إن “المؤرخين ينزعون عادة إلى وصف سنوات ما بين الحربين العالميتين بأنها كانت سنوات منافسة أيديولوجية بين الشيوعية والفاشية، أو سنوات صراع بين الديمقراطية والديكتاتورية، غير أن تارا زهرة في كتابها الجديد تقترح إطاراً جديداً للنظر إلى هذه السنوات باعتبارها سنوات رد فعل سياسي واسع النطاق على ظهور عالم معولم، وعلى عواقب الاقتصاد العولمي (وركود ما بين الحربين) على حياة ملايين. ترصد زهرة المشاعر المعادية للعولمة في شتى أرجاء الطيف السياسي، لكنها تركز على حركات اليمين المتطرف القومية الأوروبية، وبخاصة الفاشية في إيطاليا موسيليني، والنازية في ألمانيا هتلر، لكنها تبين كذلك إمكانية العثور على معاداة العولمة في البرامج التحررية للشعوب المضطهدة في جميع أنحاء العالم. وبهذا تطرح تاريخاً جديداً للحقبة شهد توتراً بين قوى العولمة وقوى مناهضتها”، وهو توتر لم يزل مسيطراً على الحاضر، بحسب كثير من القراءات لهذا الكتاب.

327352930_673665351167473_7729535067235991761_n.jpg

كما أن العولمة قديمة، فإن مقاومتها قديمة، وكراهيتها قديمة، والانحياز لها أيضاً قديم (صفحة الناشر على “فيس بوك”)

تستهل جينيفر سالاي قراءتها للكتاب بمشهد سينمائي كأنه مستل من فيلم استعراضي هوليودي بامتياز “تصوروا موكباً من الرجال من جميع أنحاء العالم، كل يرتدي زيه الوطني ويتسلقون جميعاً بوتقة صهر عملاقة ليخرجوا منها بعد دقائق وهم جميعاً يرتدون سترات على الطريقة الأميركية ويعتمرون قبعات الديربي ويتغنون بالنشيد الوطني الأميركي. كان ذلك حدثاً حقيقياً جرى فعلياً في مناسبات عدة خلال العقود الأولى من القرن الـ20. وأولئك الرجال كانوا خريجي المدرسة الإنجليزية التابعة لشركة “فورد”، وكانوا موظفين مهاجرين تلقوا تعليماً هدفه هو إجادة طريقة جديدة في الحياة، وغايته هي الاندماج الاجتماعي التام. وقد أوضح أحد المسؤولين التنفيذيين في الشركة قائلاً إن (هدفنا الأعظم هو أن نسم هؤلاء الرجال بأنهم أميركيون أو ينبغي أن يكونوا كذلك، وإن الاختلافات السابقة، العرقية والوطنية واللغوية، فهي إلى النسيان)”.

تبين تارا زهرة في كتابها أن طقس بوتقة الانصهار كان تجسيداً لمواقف هنري فورد المتناقضة من العالم خارج حدود أميركا، فقد كان فورد، بوصفه رجل صناعة، يسعى إلى الربح فيعتمد على العمالة المهاجرة حينما يلائمه ذلك، ويسعى إلى أن يكون العالم كله سوقاً له، ولكنه في الوقت نفسه كان قومياً يدين التمويل العالمي و”اليهود”، وينشر نصوصاً معادية للسامية منها (بروتوكولات حكماء صهيون) في جريدته، حتى إن هتلر خصه بثناء كبير في كتابه سيئ السمعة “كفاحي”. هو طقس يجمع بين جانب من العولمة، هو الاستعانة بالعمالة المهاجرة، وبين الوطنية المفرطة أو الأمركة في هذه الحال. وليس هذا التناقض قاصراً بالطبع على فورد، أو حتى على أي شخص.

يعمر كتاب “ضد العالم” بمثل هذه البورتريهات لعدد من الشخصيات المثيرة حقاً، ويعمر كذلك بقصص جعلت جينيفر سالاي تقول إن الكتاب استولى عليها بقصصه فوجدته عندما شرعت في الكتابة عنه عصياً على التلخيص الوافي، لأنه لا يتناول قصة مفردة تحكيها زهرة. ولأن كل قصة في هذا الكتاب مهمة وآسرة، وتضفر زهرة خيوطها السردية معاً بعمدية ومهارة لا يبدو معهما أن شيئاً في غير مكانه”.

غير أن الكتاب يقدم بالطبع قصة عامة كبيرة تتسع لكثير من القصص في ثناياها، ولا تقل القصة العامة إثارة في تقديري عن القصص الفرعية، لأنها بقليل من التأمل لا تبدو قصة ذلك الماضي وحده، ولكنها أيضاً قصة الماضي القريب، والحاضر المعيش، وربما المستقبل المنظور، إذ تشير سالاي عن حق إلى أنه “على رغم أن كثيراً مما تكتب عنه زهرة جرى قبل قرابة قرن، فالتوترات التي تستكشفها لم تتبدد قط. فوائد العولمة وأضرارها لم تزل موزعة بلا مساواة، ولم يزل رد الفعل المناهض للعولمة يزدهر مستفيداً من السخط الذي يثيره الديماجوجيون، لكنه على رغم ذلك ينبع من إحباطات حقيقية”.

أجساد الجياع

تكتب سالاي أن “أغلب فترة أواخر القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20 اتسمت بازدهار الأممية، فمزيد من السفر والهجرة وعبور الأفكار والسلع للحدود، لكن هذه العولمة مثلما نطلق عليها اليوم، لم تكن قط نافعة أو محبوبة بل كانت موضع استياء متزايد، إذ تضمنت بين ضحاياها أسراً فرقتها الهجرة، ومهاجرين يكدحون في وظائف خطرة، وخراباً لمتاجر ومزارع أمام منافسة أجنبية. وحينما حدث أن أعاقت الحرب العالمية الأولى واردات الطعام، مات مئات آلاف البشر في وسط أوروبا جوعاً. وتكتب زهرة أن ذلك (حفر أهمية الأمن الغذائي في أجساد المواطنين الجياع)”.

قد يكون الأمر مخجلاً، لكن ما الحيلة حين يبدو أنه حقيقي؟ وما الحيلة إذا كنا نحن البشر لا نختلف كثيراً عن الحيوان الذي يبدل أرضاً بأرض بحثاً عن العشب، فنبدل نحن أيضاً أيديولوجية بأيديولوجية، وأيضاً بحثاً عن مقاومة للجوع؟ هذا إن لم نقلها بطريقة أخرى، وهي أن في البشر إيماناً عميقاً، إلى درجة أن ننسى أحياناً أنه غير موجود، بأن ضرورة البقاء ذاته مقدمة على أي إيمان يبدو أرقى أو أكثر تحضراً، وأن هذا الإيمان العميق يطفو في أوقات الشدائد الكبيرة على السطح، ويظهر نفسه للعيان، ويتسلط في حكمه لقراراتنا.

تكتب جينيفر سالاي أنه “بعد الحرب العالمية الأولى، فرضت قيود على الهجرة بسبب نقص الإسكان والطعام. وفي البلاد القومية الجديدة الناشئة من الإمبراطوريات القديمة، طردت الأقليات أو قتلت. وأن هتلر كان يشعر بالحقد على الولايات المتحدة لقدرتها على إطعام شعبها من دون اعتماد على الواردات. وأن النازيين سعوا إلى خرافة الاكتفاء الذاتي من خلال الغزو الإمبريالي، وليس تصور الاقتصاد الإقليمي الضخم المعروف بالـGrossraumwirtschaft في جوهره إلا الإمبراطورية”.

الاقتصاديون أولى بالحكم على خرافية الاكتفاء الذاتي وأقدر عليه، لكن قراءة التاريخ، وربما الأنثروبولوجيا وهي بطريقة ما نسخة حية من التاريخ، تبين لنا أن الشعوب طالما حققت الاكتفاء الذاتي هذا، وأن أمم الأرض كلها ظلت تأكل وتلبس مما تزرع أو تصطاد، فتتمايز بذلك بالطعام والملبس ضمن أشياء كثيرة تتمايز بها، وأن كل قطعة أرض قابلة للسكنى في هذا الكوكب عرفت من قبل كيف تطعم ساكنيها، ولعلها لم تفقد بعد هذه الذاكرة، لكن هذه أقرب إلى قناعات الشعراء، فلكم أن تهملوها ولا تخسروا أي شيء، اللهم إلا ثقتكم في الأرض التي تمسها الآن أقدامكم.

retsgzvdkb1844920140917.jpg

تكتب زهرة أن بدايات القرن الـ20 بحروبها وكوارثها “حفرت أهمية الأمن الغذائي في أجساد المواطنين الجياع” (مواقع التواصل)

كانت الحرب العالمية الأولى إذاً نهاية عولمة سابقة، وبداية حمى عالمية أيضاً لنقض العولمة فحقق “القوميون والرجعيون وأنصار الرجوع إلى الأرض في كل من اليسار واليمين زخماً سياسياً بين الحربين العالميتين. وكتبت الصحافية الأميركية دوروثي طومسن من برلين سنة 1931 أن بوسعها أن ترى فشل الجهود المبذولة لإيقاف صعود المد القومي الجارف. وبعد 12 عاماً من المعاهدات متعددة الأطراف والمؤتمرات المشهودة ’إذا بالعالم يتراجع عن الوضع الأممي ويلملم أغراضه ويرجع إلى الوطن‘”.

في تلك الفترة، كما تكتب سالاي، “كان اليهود والنساء من أشيع ضحايا مناهضي العولمة، إذ قيل في حق اليهود إنهم كوزموبوليتانيون منزوعو الجذور، وقيل في حق النساء إنهن المستهلكات الشرهات لسلع الرفاهية المستوردة. ولم يقدس مناهضو العولمية من النساء إلا من تخلين عن وظائفهن للرجال، واكتفين بالطبخ والتنظيف وتربية الأبناء في البيوت”.

هذه تبدو وكأنها عدسة جديدة حقاً للنظر إلى وقائع في التاريخ كان يبدو أننا انتهينا منها، وحسمنا أسبابها، وحددنا مواقفنا منها. فجأة، بكتاب كهذا، تظهر لـ”الهولوكوست” أسباب غير متوقعة، لنقل إنها إضافة مقترحة إلى قائمة الأسباب التي طالما قرأنا عنها، لكن هذه الأسباب الجديدة تبدو أقرب إلى الأرض كما يقول التعبير الإنجليزي، فهي تتعلق بالاقتصاد، والاستيراد والتصدير، والجوع والشبع، ومقاومة المجتمع لمن يقدر أنهم يضعفونه سواء أكانوا يهوداً أم نساء، وكأن جذر العداء لليهود أو قهر المرأة لم يكن الدين أو الجندر، أو لو لم يكن الدين والجندر فقط.

بلا جذور

بدأت المؤرخة تارا زهرة تأليف كتابها وقد انتخب دونالد ترمب للتو رئيساً للولايات المتحدة، وانسحب البريطانيون من الاتحاد الأوروبي بتصويت شعبي، وفي ظل معانة الغرب أزمة هجرة ولاجئين، وتقدم للأحزاب الشعبوية في أرجاء أوروبا. ولم يمض وقت طويل على ذلك كله حتى كان وباء عالمي يحصد أرواح ملايين ويدفع بلاداً إلى فرض حواجز من دون الدخول إلى أراضيها، ثم اندلعت حرب في أوكرانيا أصبحت الأكثر دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وجعلت البلاد في كل مكان تتسابق إلى الاستقلال عن النفط الروسي.

“كان ذلك وقتاً تعرض فيه إيماننا بنظام دولي مستقر لاختبار صعب”، كما يكتب تونكو فاراداراجان، زميل معهد “أميركان إنتربريز” ومركز الرأسمالية والمجتمع بجامعة “كولومبيا”، في استعراضه للكتاب، “وول ستريت جورنال” 20 يناير 2023.

ينقل فاراداراجان عن تارا زهرة قولها إن “مستقبل العولمة يبدو غير مؤكد بالمرة”، وإن العالم الآن يختلف عما كان عليه عند نهاية الحرب الباردة حينما اعتقد المنتصرون أن “فتح الحدود لرؤوس الأموال والسلع” من شأنه أن يؤدي حتماً إلى الديمقراطية والرخاء.

يقول فاراداراجان عن عولمة ما قبل الحرب العالمية الأولى ما قد يصح قوله تماماً عن عولمة ما بعد الحرب الباردة “كانت الوتيرة التي تحققت بها العولمة نتيجة لتحسن سريع في التكنولوجيا أكثر مما كانت نتيجة أي نوع من التبني الفلسفي الجماعي للأممية. تكتب زهرة أن (القطارات، والسفن البخارية، والتلغراف، والخدمات البريدية، والرسائل الصحافية، نقلت البضائع والناس والمعلومات والأمراض بسرعة غير مسبوقة وبكميات لم يكن يمكن تصورها). وتنامت البنوك والتمويل لتصبح أكثر عالمية من خلال معيار الذهب الذي ضمن سعر صرف دولياً مستقراً. وعلم المزارعون في بولندا أن الأجور أعلى في الغرب الأوسط الأميركي (وكانوا على استعداد لعبور المحيط لكسبها)، ومصانع الأحذية في مساتشوستس كانت تنافس شركات تشيكوسلوفاكيا. وأدت التطورات في صناعة التبريد إلى أن أصبح اللحم البقري الأرجنتيني على الموائد في أوروبا. وبحلول عام 1910 كانت بريطانيا تستورد من الطعام ثمانية أمثال ما كانت تستورده عام 1850، واعتباراً من عام 1914، ذلك العام المأساوي الذي اندلعت فيه الحرب، كانت ألمانيا تعتمد على الواردات في ثلث طعامها. وتسبب لها هذا في ضعف غذائي، فما كادت الحرب تبدأ حتى استعملت بريطانيا قوتها البحرية في منع وصول الغذاء إلى الشعب الألماني. وذكريات الجوع الشديد في زمن الحرب، وما أعقبه من مهانات للألمان بسبب معاهدة فرساي هي التي أدت بحسب ما تكتب زهرة إلى (تراجع ألماني عن العولمة). وهذه الذكريات كانت وقوداً لصعود من ناصروا السيادة المطلقة والاكتفاء الذاتي، وأبرزهم النازيون”.

قد يكون جديراً بنا ونحن نرصد أوجه الشبه بين العولمتين أن نستبقي في أذهاننا ملاحظة فاراداراجان بأن عولمة الماضي تلك كانت نتيجة تحسن سريع في التكنولوجيا أكثر مما كانت نتيجة أي نوع من التبني الفلسفي الجماعي. فهل مثل ذلك هو الذي حدث مع عولمة حاضرنا وأمسنا القريب؟ هل غاية ما حدث أننا أفقنا ذات صباح على أننا قادرون على التواصل عبر الهواتف المحمولة والإنترنت، ومتابعة ما يجري في كل مكان من العالم في حينه، وشهدنا ببلادة ضغوطاً كبرى دول العالم على صغراها من أجل توقيع اتفاقات فتح الأسواق وتحرير التجارة، إلى أن صحونا بعد ذلك على “كوفيد” وهو يوصد الأبواب تباعاً، وعلى سفن القمح والأعلاف الحبيسة في الموانئ الأوكرانية، وعلى شبح الجوع يجتاح العالم كله. هل ما حدث في العولمة الجديدة هو أن الاستهلاك الذي صاحبها وكان وقوداً لها ألهانا عن التفكير فيها، وهو الذي منعنا أن نؤمن بها أو نكفر، وأنها لهذا بقيت هشة وغير ذات جذور؟

عنوان الكتاب: AGAINST THE WORLD: Anti-Globalism and Mass Politics Between the World Wars 

تأليف: Tara Zahra

الناشر: W.W. Norton & Company

التعليقات معطلة.