بكر عويضة صحافي فلسطيني مخضرم. عمل في كبريات الصحف العربية من بينها جريدة “الشرق الاوسط” وصحيفة “العرب” اليومية” كما عمل مستشارا لصحيفة “ايلاف” الإلكترونية.
مذ عرف العالم موجات هجرة البشر الحديثة، سعياً وراء حياة أفضل، أخذ تعبير «الحلم الأميركي» يرافق كل مُهاجر من ديار الأوطان إلى منافي الاغتراب، يطمح في تحقيق النجاح في دروب المَهاجر. صحيح أن التعبير في حد ذاته، هو من نحت آباء أميركا المؤسسين للولايات المتحدة، الذين أرادوا منه، في الأصل، إذكاء الروح الوطنية، واستنهاض عزائم الأميركيين في بناء بلادهم، بعدما حصلت على الاستقلال من المحتل البريطاني (1776)، ليس بتشييد ناطحات سحاب فقط، وإنما بتحقيق أعلى درجات الازدهار والنمو الاقتصادي. لكن الصحيح أيضاً، أن التعبير أصبح عالمياً فارتبط بأحلام مهاجري شعوب الأرض كافة، ليس إلى أميركا وحدها، بل أينما ولّوا وجوههم، وحيثما حط بهم القدر، فوضعوا حقائبهم، ونشأ بالتالي حلم أسترالي، وآخر كندي، وثالث أوروبي، ومن رحم الأخير وُلد حلم بريطاني، على ضفاف نهره الشهير عالمياً باسم «التيمس»، نمت أشجار نجاح كثيرة غرسها، وروى جذورها بعرق كدهم، مهاجرون كثر، من أطياف وأعراق عدة، واحد من أبرزهم المهاجر العراقي ناظم الزهاوي.
ربما، مع صدور عدد «الشرق الأوسط» اليوم (الأربعاء) يكون ناظم الزهاوي قد غادر، أو دُفع إلى مغادرة موقع رئيس حزب «المحافظين» البريطاني. سبب ذلك ما تتابع طوال الأسبوع الماضي من تفاصيل تتعلق بوضع السجل الضريبي للرجل. لكن، لا البقاء في المنصب، ولا المغادرة، يشكل نهاية المطاف لمن يمتلك مثل طموح الزهاوي وعزيمته. تشير تلك التفاصيل إلى احتمال الوقوع في مطب، أو الأصح «جرم» التهرب، عن قصد مسبق، من دفع مبلغ الضرائب المستحق لخزينة الدولة. الطريف في الأمر، إذا كانت فيه ثمة طرافة، أن نظام بريطانيا الضريبي يتيح للمواطن، إذا وفر مستندات تسند مزاعمه، أن يتجنب تسديد ما أمكن تجنبه من ضرائب «Tax Avoidance»، وفق الوصف القانوني. لكن النظام ذاته يعاقب بشدة، والعقوبة ربما تقضي بالسجن، كل مُدان بجريمة تهرّب متعمد من الضرائب «Tax Evasion»، كما تعرف قانونياً. في الحالة الأولى، إذا لم تتوفر مستندات تبرر التجنب، يمكن التوصل إلى تسوية بين سلطات الضرائب والفرد المعني، فيُصنف ما ارتكب كمخالفة، ويلتزم من جانبه بتسديد غرامة، ومن ثم يُغلق الملف.
هذا ممكن جداً، وبهدوء تام، عندما يكون الفرد عادياً، أما إذا كان المعني يشغل موقعاً في الدولة، فمن المستحيل أن يمرّ الحدث بلا ردود أفعال. كيف، إذنْ، والحال أن ناظم الزهاوي يجلس في موقع رئيس الحزب الحاكم، ولعل الأسوأ من ذلك – منصب رئاسة الحزب إداري أكثر منه سياسي – أن تسديد الزهاوي غرامة لمصلحة الضرائب، تردد أنها تقترب من خمسة ملايين جنيه إسترليني، تم في حين كان يشغل موقع وزير الخزانة، في حكومة بوريس جونسون، الصيف الماضي، بينما كان بسطاء الناس، ولا يزالون، في معاناة يومية مع تزايد ارتفاع مستويات غلاء المعيشة في مختلف مجالات الحياة. من جهته، ينفي الزهاوي ارتكاب أي مخالفة عن قصد، وبنيّة التهرب من دفع المُستحق عليه من ضرائب، وهو أكد مراراً أنه «واثق بتصرّفه بشكل مناسب طوال الوقت»، ومن ثم، فإن سلطات الضرائب قبلت التوضيح من جانبه بأن ما وقع «إهمال غير مقصود».
ريشي سوناك، رئيس الوزراء، المنتمي هو أيضاً إلى أسرة مهاجرة، ويُعد واحداً من أمثلة نجاح الحلم البريطاني، حسم الأمر، أول من أمس، فطلب من سير لوري ماغنوس، مستشار الحكومة المستقل، مباشرة التحقيق في ملابسات الموضوع بقصد إطلاع نواب مجلس العموم، والناس كافة، على تفاصيل ما جرى. ومن جهته، رحّب الزهاوي بالإجراء، وأبدى استعداده للتعاون التام مع سير ماغنوس. بالطبع، سوف تؤثر نتيجة التحقيق سلباً على مستقبل الزهاوي سياسياً، فيما لو انتهت إلى أنه تعمد التلاعب ضريبياً. لكن الأبعد، وربما الأسوأ، من التأثير السلبي عليه في الحقل السياسي، يتمثل في أن بقعة سوداء ستشوه سجل المهاجر العراقي ناظم الزهاوي، بعد سجل نجاح شمل تسلم حقائب وزارية عدة، منها حقيبة التعليم، وحقيبة ملف لقاح التطعيم ضد فيروس «كورونا»؛ فوزارة المالية، وصولاً إلى رئاسة حزب «المحافظين». عندما هاجرت أسرة الزهاوي من عراق صدام حسين، لم يكن ناظم قد تعدى مرحلة الصبا بعد، لكن حُسن حظه أتاح له أن يكبر، ويتعلم، وينجح، في مجتمع لن يجبره على التجنيد الإجباري، إنما ليس فوق المساءلة القانونية فيه أحد، أي أحد.