نافذة استقرار في بحر عاصف

1

غسان شربل

أضاعَ الشرق الأوسط عقوداً من أعمار بنيه إن لم نقل أكثر. أضاعَها حين وقع أسيراً لسياسات الشطب والانقلاب والاختراق والخوف. سياسات تهجس بالانتصار والإخضاع وتغيير الملامح ولا تلتفت إلى الأكلاف والحاجة الملحة إلى الاستقرار. ضاعت ثرواتٌ وتاهت ثورات. سالت أنهارٌ من الدم وتصدَّعت خرائط. نزاعات مزمنة وأخرى مستجدة وقراءات ثأرية للماضي القريب والبعيد.

ولا مبالغة في القول إنَّ معظم دول المنطقة منهكة بفعل هذا النزفِ الطويل. لا حاجة إلى سوق الأرقام عن استشراء الفقر والبطالة. عن تراجع مستوى التعليم والرعاية الصحية. عن شعور المقيمين أنَّ اقترانَ الظلمِ والظلام حوَّل الخرائطَ أقفاصاً لا خيار غير الفرار منها ولو في «قوارب الموت». مشهد الأمواج تتلاعب بجثث شبانٍ عرب ألقاهم اليأسُ بين أنيابِ الأمواج وأنيابِ الأسماك يثير الغضب والهلع.

حيلُ الماضي لم تعد تجدي. النشيد الوطني لا يملأ الفراغَ الذي يحدثه غياب الرغيف. إيقاظ العصبيات لا ينسي المريض حاجته إلى الدواء. حديث المؤامرات الخارجية لم يعد ينطلي على المطالبين بالعيش الطبيعي والكرامة الإنسانية. أحوال مؤلمة. دول تعيش في قبضة الترسانات والمسيرات وتفتقر إلى سيارات الإسعاف إذا أضرم الصيفُ النار في الأحراج أو المنازل. وأخطر من كل ما تقدَّم شعورُ المواطن أن لا مجال لقلب صفحة الحكومات الفاسدة أو الفاشلة. ليس بسيطاً أن يحلم المواطنُ بالكهرباء في زمن الذكاء الاصطناعي. وأن يحلمَ بقطرة مياه صالحة للشرب في زمن الثورات التكنولوجية المتلاحقة. ليس بسيطاً على الإطلاق أن تتكدَّس أجيالٌ في شوارعِ مدنٍ لا تعدُ ساكنيها بغير شظف العيش أو الهجرة.

يحتاج الشرق الأوسط إلى فسحة استقرار. يحتاجها العراق ليستكملَ مداواة جروح عميقة أحدثتها حروب كثيرة. يحتاجها اليمن لتمكين مكوناته من التحلق تحت سقف واحد وعلى قاعدة القبول بالآخر والبحث معه عن صيغة تطوي صفحة الحرب والتفكك. حوار للبحث عن يمن يتَّسع لكل اليمنيين من دون قسر أو قهر. تحتاج سوريا لفسحة استقرارٍ وحوار توفر فرصةً لإطلاق عملية إعادة إعمار تفتح البابَ أمام عودة سريعة لملايين السوريين المنتظرين على شفير خريطة بلادهم. يحتاج لبنان لفسحة استقرار تمكن اللبنانيين من طي صفحة الاستقواء وكسر الإرادات وتبديل القواميس قسراً عن أصحابها. يحتاج إلى العودة إلى تبادل الاعتراف بين المكونات والبحث عن منتصف الطريق لتوفير فرصة للخروج من تحت الركام. يحتاج السودانُ إلى فسحة استقرار عاجلة. مخيف أن نقرأَ أن المشارحَ حائرة بطوفان الجثث ولا خيار أمامها غير تركها تتعفَّن في ظل انقطاع التيار الكهربائي. مخيفٌ أن نقرأ أنَّ مستشفيات الخرطوم باتت خارج الخدمة، وأنَّ أقاليمَ سودانية قد لا تتردَّد في الاستقالة من الخريطة الحالية. حروب دارفور نذير بما هو أدهى. تحتاج ليبيا إلى قطرةِ استقرار لإعادةِ الوصل بين هذه الجزر الموزَّعة بين حكومات وبرلمانات وميليشيات. لم يعد يمكن تعليق آلام ليبيا على مشجبِ العقيد الراحل وممارساتِه.

راودتني فكرة حاجة الإقليم الملحة إلى الاستقرار وأنا أتابع مجرياتِ زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان إلى السعودية، التي تُوّجت بلقاء مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. أعطت الزيارة انطباعاً أنَّ القطارَ الذي انطلق من بيان بكين بشراكة صينية رفيعة يشقُّ طريقَه. والحقيقة أنَّ جوهر البيان الثلاثي يتخطَّى مسألة معاودةِ العلاقات الدبلوماسية بين دولتين مهمتين في الإقليم. يقوم جوهرُ البيانِ على مبادئِ حسن الجوار واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

التزام حسن الجوار واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية يوفر للقوى المتصارعة في الدول المتصدعة فرصة حقيقية إن هي رغبت في اغتنامها. وقف التدخلات قد يضع القوى المتصارعة في هذه الدول أمام ضرورة البحث عن حلول بدل البحث عن انتصار لن يؤديَ إلا إلى إطالة أمد النزاعات. ولعلَّ هذه القوى تأخذ العبرة من اتفاق السعودية وإيران على طي صفحة القطيعة واعتماد لغة الحوار وتفعيل الاتفاقات السابقة والبحث في فرص المستقبل. الخلافات التي كانت قائمة بين السعودية وإيران ليست بسيطة على الإطلاق، وهي تراكمت على مدار عقود بفعل انتماء البلدين إلى قاموسين مختلفين في قراءة أوضاع المنطقة والعالم. وعلى رغم ذلك كان لا بد من قرار بالخروج من أسلوب المواجهة والاستنزاف ولغة الاشتباك إلى مرحلة بناء جسور التعاون والتطلع إلى الاستثمار والازدهار والتعايش الإيجابي من دون اشتراط تغيير الملامح.

نافذة الاستقرار التي توفرها العملية المستندة إلى بيان بكين شديدة الأهمية للمنطقة. تزداد أهميتها إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ العالمَ يندفع نحو سنوات صعبة بل خطرة. تكفي الإشارة إلى تطورات الحرب الروسية في أوكرانيا وعجز طرفيها عن تحقيق تقدّم حاسم يفتح الباب لوقف النار. يمكن القول إنَّ الحربَ دخلت مرحلة جديدة بعدما باتت هجمات المسيرات الأوكرانية على أهداف في روسيا، بينها موسكو، ممارسة شبه يومية. كلام مجلس الأمن الروسي عن أنَّ هزيمة الغرب في أوكرانيا حتمية يؤكد حجمَ النزاع وخطورته. يمكن قول الشيء نفسه عن موافقة واشنطن على تسلّم أوكرانيا، في الوقت المناسب، مقاتلات أميركية من طراز «إف 16» عبر دول تملكها. لن يكون المشهدُ بسيطاً إذا رأينا طائرات أميركية من هذا النوع تقاتل طائرات روسية في أجواء أوكرانيا. والوضع خطر أيضاً على جبهة تايوان، خصوصاً بعد القمة التي استضافها جو بايدن في كامب ديفيد، وشارك فيها الرئيس الكوري الجنوبي ورئيس الوزراء الياباني، والتي ستعزز لدى الصين الانطباع بأنَّ محاولة تجري لتطويقها تماماً كما فعل حلف شمال الأطلسي مع روسيا.

توحي الأحداث أنَّ العالم يتَّجه نحو سنوات من الجمر. من مصلحة أهل الشرق الأوسط عدم الانخراط في الاستقطاب الكبير ودفع الأثمان الباهظة. العلاقات السعودية – الإيرانية يمكن أن تشكّل نافذة استقرار إقليمي في بحر عالمي عاصف، أو تساهم على الأقل في حصر الأضرار.

التعليقات معطلة.