حرية الرأي والتعبير من الحريات الأساسية التي كفلها القانون الدولي لحقوق الإنسان، وهي حق قائم بذاته، على رغم كونها وسيلة لإعمال حقوق الإنسان الأخرى! بمعنى أنها ليست غايةً في ذاتها، وإنما هي وسيلة لتحقيق غايات معينة، ومع ذلك فهي حق يحتل الدرجة ذاتها التي تحتلها حقوق الإنسان الأخرى، كالحق في الحياة، والكرامة، والتعليم، والصحة، والعمل وغيرها، وقد أكد ذلك إعلان وبرنامج عمل فيينا 1993، الذي تضمن أن جميع حقوق الإنسان عالمية، وغير قابلة للتجزئة، ومترابطة ومتشابكة، ويجب على المجتمع الدولي أن يعامل حقوق الإنسان على نحو شامل، وبطريقة منصفة ومتكافئة، وعلى قدم المساواة، وبالقدر نفسه من التركيز.
ولكن السؤال المفاهيمي الذي يقفز إلى الأذهان بمجرد ذكر حرية الرأي والتعبير هو: ما هو نطاق حرية الرأي والتعبير؟ أو ما هي حدود هذه الحرية؟
يرى الغرب، وبخاصة الأميركيين، وفقاً للمواقف الرسمية وتقارير المنظمات غير الحكومية الغربية، والدراسات التي تجريها مراكز البحوث والدراسات وغيرها من المصادر، أن حرية التعبير يجب أن تكون بلا قيود، وأن ملاحقة أي شخص بسبب آرائه وتعبيراته هو انتهاك لهذه الحرية، بصرف النظر عن تلك الآراء والتعبيرات. ويؤكد رسوخ هذا المفهوم ما ذكرته المندوبة السابقة للولايات المتحدة لدى المقر الرئيس للأمم المتحدة في نيويورك روبل، احتجاجاً على مشروع قرار يحظر إثارة الأشكال المعاصرة من العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب؛ إذ ذكرت أنه ينبغي التمييز بين التعبير الهجومي، الذي يجب حمايته، وبين الأفعال الهجومية من قبيل التمييز والعنف المدفوعين بالتعصب، والتي ينبغي حظرها، إضافة إلى مطالبتها بمنع الدول من الاحتجاج بالمادة الرابعة من الاتفاق الدولي للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، التي تحظر نشر الأفكار القائمة على التفوق العنصري والكراهية العنصرية، وإنشاء المنظمات التي تروج للتمييز العنصري، وكذلك المادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي حظرت أية دعاية للحرب وأية دعوة إلى الكراهية العنصرية أو القومية!
فبحسب روبل، أو المفهوم الذي تنطلق منه، ينبغي الفصل الصارم بين التعبيرات التي لا ينبغي السماح بها فقط، بل وحمايتها، حتى وإن كانت مدفوعة بالعنصرية والتعصب، وبين الأفعال العنصرية، مثل التمييز والعنف، التي هي أصلاً تمثل في ذاتها جرائم، وتخرج عن موضوع حرية الرأي والتعبير كلياً! فهي بمطالبتها بالفصل بين التعبيرات والأفعال تقول بوجه آخر، ينبغي عدم تجريم أي تعبير في كل الظروف والأحوال!
وهذا ما يفسر اتجاه عدد من المنظمات غير الحكومية، كالعفو الدولية (AMNESTY)، ومراقبة حقوق الإنسان (Human Rights Watch) وغيرهما، إلى ترويج مصطلح «سجناء الرأي» (Prisoners of Conscience)، الذي ينطوي على دلالاتٍ تكرس المفهوم الغربي لحرية الرأي والتعبير.
تأملوا معي، «سجناء الرأي»، بمعنى أن أي شخص يسجن بسب آرائه فهو ضحية في كل الأحوال، وأن أية سلطة تقوم بإيقاف أو سجن شخص بسبب آرائه فهي متجنية في كل الأحوال، وبالتالي يكون هذا المصطلح تزكية دائمة للطرف الأول، ووصما دائما للطرف الثاني. لسنا في صدد تقويض هذا المفهوم باستحضار القواعد القانونية (الجنائية والمدنية والتجارية والإدارية…) التي لا يستقيم معها، فقد كفانا القانون الدولي لحقوق الإنسان مؤونة ذلك، إذ إنه رسم حدود حرية الرأي والتعبير، وحظر أي تجاوزٍ لهذه الحدود، ومن ذلك ما تضمنته المادة الـ19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، إذ ورد فيها جواز إخضاع حرية التعبير لبعض القيود، شريطة أن تكون محددة بنص القانون، وأن تكون ضرورية لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، ولحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة، كما ورد في المادة الـ20 من العهد ذاته حظر أية دعاية للحرب، وأية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف.
الخلاصة هي أن حرية التعبير مثل حصانٍ متقلب المزاج، يملك من الشراسة قدر ما يملك من الوداعة، وبالتالي ينبغي ضبط شراسته، وتعزيز وداعته، وبناء مضمار له يملك من السعة ما يتناسب مع خطواته الطويلة وقفزاته الأطول، أي أنه ينبغي الموازنة الدقيقة بين حماية وتعزيز حرية الرأي والتعبير، وبين إخضاعها للقيود الضرورية لحماية حقوق الإنسان الأخرى وقيم المجتمع وكيان الدولة والوحدة الوطنية، وهذا في تقديري، جزء من إعمال مبدأ تكاملية حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة.