من بغداد إلى طهران… نحن وقود التغيير ولسنا صُنّاعة
يبدو أن الشرق الأوسط بات قاب قوسين أو أدنى من لحظة انقلاب كبرى… لحظة لا تصنعها شعوبه ولا تحددها إراداته، بل تُرسم في غرف القرار البعيدة وتُنفذ على أراضيه. الأحداث المتسارعة والتوازنات المختلة تشير إلى أن الأيام، وربما الساعات، القادمة قد تكون كفيلة بإسقاط نظام إقليمي عتيق وبناء معادلة جديدة، لا رحمة فيها للضعفاء، ولا مكان فيها لمن تأخر عن فهم قواعد التحول .
المنطقة تشهد منذ سنوات حالة من التآكل البطيء في الهياكل السياسية، والآن وصلنا إلى لحظة الانفجار… ما يحدث ليس مجرد صراع بين دول أو تنافس على النفوذ، بل إعادة تشكيل شاملة، يتبدل فيها موقع الحليف والعدو، وتسقط فيها الحدود السياسية التي ظلت لعقود خطوطًا حمراء.
الأنظمة المهترئة، والولاءات المهزوزة، والعروش المرتجفة، جميعها مرشحة للسقوط تحت وقع زلازل هذا التحول العنيف. وما يُحاك في الخفاء، من اتفاقات وترتيبات وتحالفات خفية، لا يهدف فقط إلى إدارة الأزمات، بل إلى إنتاج شرق أوسط جديد، بلا ملامح، وبلا إرث، وبلا ذاكرة.
والسؤال المؤلم: أين شعوب المنطقة من كل ذلك؟ للأسف، تُقاد دون إرادة، وتُدار دون قرار، وتُستثمر معاناتها في مشاريع لا تعنيها. أما الأنظمة، فغارقة في وهم السيطرة بينما تفقد تدريجياً أدوات البقاء.
الضربة: لحظة الانتقال من الاحتواء إلى الحسم
الضربة الأمريكية التي استهدفت منشآت نووية إيرانية فجر يوم 22/ حزيران عام 2025 ، لم تكن سوى الإعلان العملي عن نهاية مرحلة طويلة من الترقب والتفاوض، وبداية مرحلة أكثر خشونة ووضوحًا في التعاطي مع المشروع الإيراني.
لم تكن الضربة مجرد عمل عسكري تكتيكي، بل هي رسالة استراتيجية تقول إن مرحلة الاحتواء قد انتهت، وإن واشنطن قررت ، ولو متأخرة . الإمساك بزمام المبادرة. في الوقت الذي كان الجميع يتحدث عن التهدئة، كانت غرف العمليات تُعد لانفجار مدروس يقلب الطاولة ويُعيد رسم حدود النفوذ .
توقيت الضربة، ومحدودية التصريحات الأميركية بعدها، يؤكد أن واشنطن لم تعد معنية بتجميل الصورة، بل بتكريس واقع جديد على الأرض، واقع تُفرض فيه المعادلات بالنار لا بالبيانات الدبلوماسية.
العراق في عين العاصفة
العراق، بخصوصيته الجيوسياسية وتاريخه المعقد، لم يعد على هامش المشهد، بل بات في صلب التحولات الجارية. ومع كل صدمة إقليمية، يعود اسمه إلى الواجهة باعتباره ساحة اختبار لكل مشروع إقليمي أو دولي .
لكن العراق لا يبدو لاعبًا فاعلًا، بل ورقة تتقاذفها أطراف الصراع. المنظومة السياسية فيه فقدت شرعيتها الشعبية، وانقسمت بين ولاءات خارجية متصارعة، مما جعله ساحة مفتوحة للتجريب… لا قرار سيادي، ولا خطة إنقاذ وطنية، ولا قدرة على الفعل خارج ظل القوى الإقليمية والدولية .
وفي لحظة التحول القادمة، قد لا يُمنح العراق ترف الانتظار أو الحياد. فإما أن يعيد صياغة نفسه كدولة وطنية تسترد قرارها، أو يُبتلع مجددًا في خرائط النفوذ الجديدة التي تُرسم اليوم بلا رأي لأبنائه .
الموقف الأميركي: إدارة الانهيار لا منعه
الولايات المتحدة، برغم كل تصريحاتها عن دعم الاستقرار، لا تسعى لوقف الانهيار بقدر ما تسعى لإدارته بما يضمن مصالحها. واشنطن تعلم جيدًا أن النظام الإقليمي القديم انتهى فعليًا، لكنها تحاول توجيه ما بعده لصالحها، خصوصًا في مواجهة التمدد الروسي والصيني.
وفي العراق، تراقب أميركا المشهد بعيون مزدوجة: عين على النفوذ الإيراني الذي تسعى لتقليصه، وعين على مصالحها التي تريد الحفاظ عليها بأقل تكلفة. لذلك فهي تتجنب التصعيد المباشر، لكنها في ذات الوقت تُعيد تموضعها وتُمسك بخيوط اللعبة في الخلف، عبر رسائل ضغط وتفاهمات خفية.
وكلما تصاعد الصراع في الإقليم، ستُجبر واشنطن على كشف أوراقها أكثر، سواء عبر دعم عسكري محدود، أو تسوية سياسية مفروضة، أو حتى تغييرات في خرائط النفوذ داخل العراق نفسه .
في حضرة الساعة الأخيرة
في العواصف الكبرى، لا يُنصت لأصوات الشعوب، بل لوقع السقوط… ومن لا يسقط من الخارج، يسقط من الداخل بصمت قاتل. إنها لحظة الحساب… حيث لا ينفع الحياد، ولا تشفع الذكريات. كل من تواطأ بالصمت، أو ظن أن النار لا تصله، سيكون وقودًا في موقد الانهيار. فالشرق الأوسط لا يُعاد تشكيله… بل يُعاد إشعاله، ومن لم يكن مستعدًا للانبعاث، سيُدفن تحت رماد تاريخه .