خميس بن عبيد القطيطي:
تشكلت عبر حقب مختلفة من التاريخ أنظمة عالمية متنوعة كان من أبرزها نظام القطب الواحد، وقد برز عدد من الامبراطوريات خلال التاريخ مثل الدولة الفارسية والدولة الرومانية، ثم جاءت الدولة الإسلامية بمختلف عهودها والتي ضمت في جغرافيتها أمما وشعوبا مختلفة تمددت في قارات العالم القديم مبرزة نظام القطب الواحد، ولسنا هنا بصدد الدخول في التفاصيل والمقارنات بين تلك الدول وممارساتها، واستمر الحال مرورا بالدولة الأموية في الأندلس ثم الدولة العثمانية التي استمرت عدة قرون حتى سقوطها بشكل رسمي عام 1924م، مع أن المراحل الأخيرة من عمرها تقدم نحو الصدارة العالمية عدد من الدول الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا، ثم تشكل النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية على نمط عالمي ثنائي القطب حيث قسم مناطق النفوذ في العالم بين معسكرين يقود أحدهما الاتحاد السوفييتي وهو (المعسكر الشرقي) فيما تقود الولايات المتحدة الأميركية المعسكر الآخر (المعسكر الغربي). وقد وصل السباق بينهما في إحدى مراحله على أعتاب شفير حرب نووية قد تدمر العالم بعد نشوب أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962م، كما أن هناك محطات أخرى في سياق تلك المواجهة تجلت مظاهرها باستخدام القوة المسلحة مثل الحرب الكورية بين عامي (1950/1953م) وحرب فيتنام والاحتلال السوفييتي لأفغانستان، وكذلك ما سمي بحرب النجوم في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، واستمر نهج المواجهة بين هاتين القوتين العظميين حتى بداية العقد الأخير من القرن العشرين حينما تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991م مفسحا المجال للولايات المتحدة الأميركية للانفراد بالقطبية الأحادية، وما زالت تهيمن على النظام العالمي حتى الآن. فما هو النظام الدولي الأنجع لقيادة العالم على هذا الموكب؟؟
بالتأكيد نحن هنا لا نعني النظام الأيديولوجي سواء كان إسلاميا أو رأسماليا أو شيوعيا أو غير ذلك، ولكن الحديث هنا يتعلق بالصدارة والقيادة العالمية، سواء كانت أحادية أو ثنائية أو متعددة الأقطاب، ومع أن العالم ما زال حتى الآن يعيش في نظام القطب الواحد الذي تتسيده الولايات المتحدة كقوة عظمى بسطت هيمنتها على العالم من خلال ثلاث مؤسسات سياسية واقتصادية وعسكرية وهي: الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي والبنك الدولي، لذا فقد أدت تلك الهيمنة الدولية الأحادية إلى إخضاع العالم للسياسات الأميركية بكل ما تحمله تلك السياسات من تجاوزات وظلم بحق الدول والشعوب الأخرى بل واختراق القانون الدولي في عدة مناسبات دولية من أهمها الحرب على أفغانستان والعراق، وهي بلا شك سياسات ذات لون واحد كيفما تراه القوة الأميركية التي توحشت في بعض ممارساتها السابقة، فلم تتورع في استخدام السلاح النووي في الحرب العالمية الثانية عام 1945م مرتين في هيروشيما وناجازاكي باليابان، واستخدمت القوة في مناطق متعددة من العالم، ودعمت الكيان الصهيوني وتكفلت بحمايته وتحقيق أمنه منذ زراعته في قلب العالم العربي عام 1948م واستخدمت الفيتو ضد قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بالحقوق الفلسطينية، والعديد من المواقف الدولية الأخرى التي لم تعبر فيها الولايات المتحدة عن مسؤوليتها الأخلاقية في قيادة العالم، ما أدى إلى إلحاق الظلم بالأمم والشعوب الأخرى، وهذا الواقع هو ما سيؤدي إلى أفول نجم هذه القوة العالمية. وقد بدأت الولايات المتحدة بالفعل تعيش مرحلة من مراحل تراجعها الدولي أو بالأحرى منافستها في الهيمنة العالمية من قبل أطراف دولية أخرى تسعى لمزاحمتها على الصدارة، فإلى أي مدى ستستمر الولايات المتحدة في صدارتها لهذا النظام العالمي والتمسك بالقطبية الأحادية؟؟
إن الاعتماد الأميركي على التفوق الاقتصادي ساري المفعول، ولكنه لا يرسم صورة مستقبلية مشرقة مع تدافع قوى دولية باتجاه المنافسة مثل الصين التي غزت العالم صناعيا واليابان وألمانيا اللتين تقدمتا في المجال التكنولوجي، ما شكل منافسة عالمية قوية متعددة، أما في المجال العسكري فهناك تقدم روسي بخطوات واثقة نحو المنافسة بل شكلت روسيا ندا قويا للولايات المتحدة في عدد من الملفات السياسية، واستطاعت أن تكسب الرهان، كما حدث في شبه جزيرة القرم وفي سوريا أيضا. كما أن تحركاتها تميزت بدقة متناهية في هذا المضمار، إضافة إلى ذلك هناك بروز خريطة من التكتلات التي ستشكل النظام العالمي القادم مثل مجموعة البريكس التي تمثل قوة صناعية وتنموية صاعدة، وهي تمثل خمس دول حاليا هي: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، وهذه المجموعة تمثل ربع مساحة العالم من اليابسة و40% من سكان العالم. والأهم في هذا التجمع أن هدفه الرئيس هو خلق نظام عالمي متعدد الأقطاب. وبلا شك أن النظام المتعدد الأقطاب يؤمل فيه الحفاظ على الاستقرار العالمي بشكل أفضل من احتكار السلطة السياسية والاقتصادية تحت هيمنة قطب واحد. واستطرادا في الحديث حول مجموعة البريكس فهي تجتمع سنويا وفق خطط مدروسة وقد يتم اختيار دول معينة في المستقبل للانضمام إلى هذا التجمع الاقتصادي العالمي، وأبدى الكثير من الدول الاهتمام بالانضمام لهذه المجموعة مثل إندونيسيا ونيجيريا والمكسيك وتركيا والأرجنتين، وهو ما يمثل خطا تصاعديا لهذا التكتل الدولي في المستقبل لمنافسة الولايات المتحدة على الصدارة العالمية، وقد يتحقق ذلك على أرض الواقع في زمن قياسي وغير متوقع.
إن العالم اليوم وبعد تجربة نمط من أنماط القطبية العالمية (القطبية الأحادية) الذي أثبت فشله في معالجة عدد من القضايا الدولية مثل قضايا الأرض والمناخ، واتساع طبقة الأوزون والغازات المنبعثة والتلوث، ومشاكل عالمية أخرى، يتحمل مسؤوليتها وتفاقم ظواهرها وأسبابها القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تخلت عن مسؤوليتها العالمية، وانسحبت من بعض الاتفاقيات الدولية المتعلقة بتلك الظواهر العالمية، هذا بالإضافة إلى قضايا دولية أخرى أثبت هذا النظام العالمي الأحادي المعاصر فشله في حلها ومعالجتها منها بعض القضايا السياسية الدولية واتساع دائرة الصراعات حول العالم، واستمرار توحش الرأسمالية التي خلفت أزمات اقتصادية عالمية، ما أثبت عجز هذا النظام العالمي في إحداث أي تغيير إيجابي لمعالجة تلك المشكلات، وبالتالي فإن هناك حاجة عالمية ملحة لإيجاد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يجابه تلك المشكلات، ويجنب المجتمع الدولي محاولات الابتزاز واحتكار السلطة، ولا يستبعد نشوء نظام عالمي متعدد الأقطاب يتشكل الآن على أرض الواقع وإن غدا لناظره قريب.