نصائح بول بريمر: الى خلفه السفير جون نيغرو بونتي

4

 

عندما تنظر إلى تاريخ العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003، تجد أن الفترة التي تولى فيها بول بريمر إدارة سلطة الائتلاف المؤقتة تمثل واحدة من أكثر المراحل جدلًا وتأثيرًا. بريمر، الذي أدار العراق بقبضة حديدية وبقرارات مثيرة للجدل، ترك إرثًا مليئًا بالفوضى السياسية والاجتماعية. وعندما غادر منصبه ليحل محله السفير جون نيغرو بونتي، اختار أن يترك لخلفه وصايا حادة وواضحة عن كيفية التعامل مع الطبقة السياسية التي صنعتها تلك الحقبة.

النصائح التي وجهها بريمر لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل كانت انعكاسًا لرؤية قاتمة للسياسيين العراقيين الذين أُنتجوا تحت مظلة الاحتلال. تضمنت تحذيرات صارخة ونقدًا لاذعًا يبرز شخصية بريمر كصانع للقرارات من جهة، وكشاهد على تحولات سياسية جسيمة من جهة أخرى.
انتهت ولاية بول بريمر كحاكم مدني للعراق بعد احتلاله،وحل محله السفير الأمريكي في العراق(جون نيغرو بونتي)، وقبل التحاقه،كتب له مجموعة النصائح هذه، التي نشرتها صحيفة (الواشنطن بوست) الأمريكية بتاريخ 15 -12 – 2004 عن كيفية التعامل مع السياسيين العراقيين الذي جاءوا بهم من الطرقات

نصح بول بريمر خلفه جون نيغرو بونتي بالآتي:

إياك أن تثق بأيّ من هؤلاء الذين آويناهم وأطعمناهم، نصفهم كذابون، والنصف الآخر لصوص.

محتالون لا يفصحون عما يريدون ويختبؤون وراء أقنعة مضللة.

يتظاهرون بالطيبة واللياقة والبساطة، والورع والتقوى، وهم، في الحقيقة، على النقيض من ذلك تماما فالصفات الغالبة هي: الوضاعة والوقاحة وانعدام الحياء.

احذر أن تغرنك قشرة الوداعة الناعمة فتحت جلد هذا الحمل، الذي يبدو حميمياً وأليفاً ستكتشف ذئباً مسعوراً، لا يتردد من قضم عظام أمه وأبيه، ووطنه الذي يأويه، وتذكر دائماً أن هؤلاء جميعاً سواء الذين تهافتوا على الفتات أم الذين التقطناهم من شوارع وطرقات العالم هم من المرتزقة .

حاذقون في فن الاحتيال وماكرون كما الثعالب لأننا أيضا دربناهم على أن يكونوا مهرجين بألف وجه ووجه.

يريدون منا أن لا نرحل عن العراق ويتمنون أن يتواجد جنودنا في كل شارع وحي وزقاق وأن نقيم القواعد العسكرية في كل مدينة وهم مستعدون أن يحولوا قصورهم ومزارعهم، التي اغتصبوها، إلى ثكنات دائمية لقواتنا، لأنها الضمانة العملية الوحيدة لاستمرارهم على رأس السلطة…
وهي الوسيلة المتوفرة لبقائهم على قيد الحياة. لذلك تجد أن هذه الوجوه تمتلئ رعباً ويسكنها الخوف المميت لأنها تعيش هاجساً مرضياً هو(فوبيا انسحاب القوات الامريكية)،الذي لا ينفك عنها ليلاً ونهاراً. وقد أصبح التشبث ببقاء قواتنا أحد أبرز محاور السياسة الخارجية لجمهورية المنطقة الخضراء.

يجيدون صناعة الكلام المزوق وضروب الثرثرة الجوفاء مما يجعل المتلقي في حيرة من أمره وهم في الاحوال كلها بلداء وثقلاء، ليس بوسع أحد منهم أن يحقق حضوراً حتى بين أوساط زملائه وأصحابه المقربين.

فارغون فكرياً وفاشلون سياسياً لن تجد بين هؤلاء من يمتلك تصوراً مقبولاً عن حل لمشكلة أو بيان رأي يعتد به إلا أن يضع مزاجه الشخصي في المقام الأول تعبيراً مرضياً عن أنانية مفرطة أو حزبية بصرف النظر عن أي اعتبار وطني وموضوعي.

يعلمون علم اليقين أنهم معزولون عن الشعب لا يحظون بأي تقدير أو اعتبار من المواطنين لأنهم منذ الأيام الأولى، التي تولوا فيها السلطة في مجلس الحكم الانتقالي الموقت أثبتوا أنهم ليسوا أكثر من مادة استعمالية وضيعة في سوق المراهنات الشخصية الرخيصة.

يؤمنون أن الاحتيال على الناس ذكاء، وأن تسويف الوعود شطارة، والاستحواذ على أموال الغير واغتصاب ممتلكات المواطنين غنائم حرب، لذلك هم شرهون بإفراط تقودهم غرائزية وضيعة، وستجد أن كبيرهم، كما صغيرهم، دجالون ومنافقون، المعمم الصعلوك والعلماني المتبختر سواء بسواء ..

وشهيتهم مفتوحة على كل شيء، الأموال العامة والأطيان، واقتناء القصور، والعربدة المجنونة، يتهالكون على الصغائر والفتات بكل دناءة وامتهان.

وبالرغم من كل المحاذير والمخاوف فإياك أن تفرط بأي منهم لأنهم الأقرب إلى مشروعنا فكراً وسلوكاً، وضمانةً مؤكدة، لإنجاز مهماتنا في المرحلة الراهنة، وأن حاجتنا لخدماتهم طبقاً لاستراتيجية الولايات المتحدة لازالت قائمة وقد تمتد إلى سنوات اخرى قبل أن يحين تاريخ انتهاء صلاحيتهم الافتراضية، بوصفهم (مادة استعمالية مؤقتة) لم يحن وقت رميها أو إهمالها بعد.

يعمل بريمر البالغ من العمر 76 عام بعد تقاعده مدربا للتزلج في منتجع أوكيمو ماونتن بولاية فيرمونت شمال شرق الولايات المتحدة

يقول في آخر لقاء له بعد تقاعده : ” أنه لا يشعر بأي ندم على الدور الذي لعبه بعد توليه قيادة سلطة الائتلاف المؤقتة في العراق على الرغم من أن الكثيرين ينظرون إلى دوره كعامل قاد العراق إلى الفوضى .

وصايا بول بريمر لخلفه، جون نيغرو بونتي، تكشف عن عمق الأزمة التي زرعها الاحتلال في العراق، وعن الطريقة التي تم بها تشكيل النظام السياسي الجديد بعيدًا عن الإرادة الشعبية. هذه النصائح، رغم قسوتها، تعكس حقيقة عارية: أن تلك الطبقة السياسية لم تكن أكثر من أدوات مؤقتة في مشروع أوسع، حيث استُخدمت لتحقيق أهداف معينة، ثم تُركت لتغرق في فسادها وانقساماتها.

بريمر، الذي أصبح مدربًا للتزلج بعيدًا عن أضواء السياسة، أكد في آخر لقاء له أنه لا يشعر بأي ندم على دوره في العراق. ولكن الحقائق على الأرض تقول عكس ذلك؛ العراق الذي تركه خلفه كان أشبه بسفينة تتقاذفها الأمواج، فاقدة للبوصلة، ومنقسمة على ذاتها.
النصائح التي وجهها بريمر لخلفه لم تكن مجرد كلمات توجيهية، بل كانت وثيقة تُظهر مدى ارتباط مشروع الاحتلال بالوجوه التي تبنت السلطة، ومدى هشاشة هذا المشروع الذي، رغم اكتماله عسكريًا، فشل إنسانيًا وسياسيًا.

التعليقات معطلة.