د.احمد مصطفى
”يتصرف ترامب بعيدا عن قيود البيروقراطية في إدارة أميركا فهو يفعل الأمر نفسه مع العالم، حتى رغم أن البعض من أصحاب “الحكمة التقليدية” يصف سياساته الخارجية بأنها “انعزالية” تستهدف انسحاب أميركا من العالم وانكفائها على ذاتها. والواقع أن “فك الارتباط” الأميركي مع العالم ليس بجديد، ولا هو توجه ابتدعه الرئيس ترامب بل استراتيجية بدأت منذ الفترة الرئاسية الثانية لجورج بوش الابن واستمرت فترتي رئاسة باراك أوباما.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يخرج خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي عن لغة الرجل التي ميزت توجهه منذ فوزه في انتخاب الرئاسة عام 2016، وإن كان البعض يرى أن الرئيس أصبح “رئاسيا” أكثر من ذي قبل. وربما يعني ذلك أن من يكتبون خطابات الرئيس توصلوا لصيغة حل وسط بين مزاج الرجل وتصوراته السياسية وقواعد العمل الرئاسي التقليدية. وبغض النظر عن الأسلوب، يظل ترامب بعد نحو عامين الآن في الرئاسة ملتزما بنهجه الشعبوي القوي وتصوره لأميركا والعالم “خارج صندوق” السياسة التقليدية وبيروقراطية الإدارة الأميركية الراسخة. والأرجح أنه مستمر في ذلك في نصف الفترة المتبقي من رئاسته الأولى ـ وربما الثانية أيضا.
وكما يتصرف ترامب بعيدا عن قيود البيروقراطية في إدارة أميركا فهو يفعل الأمر نفسه مع العالم، حتى رغم أن البعض من أصحاب “الحكمة التقليدية” يصف سياساته الخارجية بأنها “انعزالية” تستهدف انسحاب أميركا من العالم وانكفائها على ذاتها. والواقع أن “فك الارتباط” الأميركي مع العالم ليس بجديد، ولا هو توجه ابتدعه الرئيس ترامب بل استراتيجية بدأت منذ الفترة الرئاسية الثانية لجورج بوش الابن واستمرت فترتي رئاسة باراك أوباما. ربما العكس، إذ إن ترامب ينخرط في العالم ويجعل واشنطن تقود في كثير من ملفات السياسة الدولية ـ بغض النظر عن موقفنا من تلك القيادة، واعتبارها سلبية أو ايجابية.
يمكنك وصف ترامب بكثير من الأوصاف، بدءا من أنه رأسه كبير وما بداخلها صغير وأنه انفعالي وكذاب حتى النصب ولا يفهم إلا أمرين في الحياة: المال والنساء، لكن من الصعب تجاهل أنه ينجز ـ بغض النظر عن تقييمك لانجازه. وعكس ما يراه كثيرون من انجازات الرئيس الأميركي في النصف الأول من رئاسته الأولى يتعلق بالداخل الأميركي أكثر منه بالخارج ودور أميركا في العالم، أتصور أن ما يحدث في أميركا انعكاس لسياسات ترامب الخارجية ومحاولته رسم “نظام عالمي جديد” تقوده قوة واحدة هي الولايات المتحدة وينسف فكرة التعددية التي برزت ما بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي.
صحيح أن قرار خفض الضرائب يعد سببا رئيسيا في انتعاش الاقتصاد الأميركي، لكن اجراءات ترامب التي توصف بأنها “حمائية” وضد العولمة وحرية التجارة كان لها أثر كبير أيضا في ارتفاع مؤشرات الأسواق الأميركية وقوة العملة (الدولار) وتحسن مؤشرات الاقتصاد الكلي عموما. فالضغط على الشركات الأميركية أن تنقل أعمالها إلى بلادها بدلا من وجودها في دول أخرى لتفادي الضرائب والاستفادة من العمالة الرخيصة أعاد أعمالا كثيرة للولايات المتحدة بما وفر وظائف جديدة وقلل نسبة البطالة. كذلك، اجراءات فرض الرسوم وزيادة التعرفة الجمركية على سلع ومنتجات أجنبية تغرق الأسواق الأميركية جعلت الانتاج الأميركي في وضع منافسة أفضل في السوق الداخلي.
أيضا تلك السياسات، التي قد يراها البعض “ابتزازا” لفجاجتها في الشكل، التي عززت لجوء كثير من دول العالم للشراء من أميركا (من سلع إلى سندات دين وأسهم) والاستثمار فيها والتعامل معها ماليا واقتصاديا ـ ولو من باب تعزيز العلاقة مع رئيس يهتم بالمال قبل كل شيء ـ كلها ساهمت في التحسن الاقتصادي. وربما يؤدي ما يجري الآن من إعادة التفاوض بشأن اتفاقات التجارة التي شاركت فيها أميركا من قبل إلى تحسين شروطها لصالح الاقتصاد الأميركي ما يعني الحفاظ على زخم التحسن والنمو.
يدرك الرئيس ترامب أن بلاده هي الأقوى عالميا، وأن لها دورا رئيسيا في قيادة العالم ـ اقتصاديا وعسكريا ومن ثم سياسيا ـ لكنه يرى أن من صلاحياته تحديد شكل هذا الدور بما يعظم من أرباحه ويقلل من خسائره. لذا، يتجاوز ترامب تماما كل الأطر الحاكمة للعلاقات الدولية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية طالما أنها لا تساعد في فرض تصوره لنظام عالمي جديد تقوده واشنطن (أو لنقل ترامب، أي نظام عالمي ترامبي). من هنا كان انسحاب أميركا من منظمات واتفاقات دولية، من اتفاقية المناخ إلى محاولة التنصل من منظمة التجارة العالمية، وهجوم الرجل وانتقاده لكثير من منظمات الأمم المتحدة.
ومما يمكن استنتاجه من ممارسات إدارة ترامب في العامين الماضيين نخلص إلى شكل (وإن كان غير مكتمل) لنظام ترامب العالمي. أما الخط الأساسي له فهو: أميركا هي القوة العظمى الوحيدة في العالم، لكن العالم لا يقدر ذلك تماما ولا يعطيها حقها. ربما لا يفكر ترامب بطريقة بريجنسكي وكيسنجر، لكنه يتصرف بشكل مباشر وفج بما لا يخرج عن ملامح الاستراتيجية الأميركية في علاقتها بالعالم منذ ما بعد “أزمة السويس” عام 1956. ربما يكون تعبير ترامب عن ذلك في تغريداته وتصريحاته أقرب للغة الشوارع منه إلى حصافة الدبلوماسيين، لكنه في النهاية تعبير واضح جلي عن نهج أميركي لم يختلف كثيرا منذ أكثر من نصف قرن.
نظام ترامب العالمي يقوم على معادلة بسيطة (بابتسار شديد ومتعسف) هي: أنا كبيركم في هذا العالم، ويمكنني أن اقودكم إلى ما هو جيد فاعطوني ما أطلبه، وهذا حق لي وليس منة ولا حتى “تبادل منافع”. وليس أمام العالم سوى أن يقبل ذلك أو يرفضه، أو على الأرجح يجد تفسيرا يرضيه لينصاع له بدرجة أو بأخرى.