د. صبحي غندور
تحميل «نظرية المؤامرة» وحدها مسؤولية المصائب والأزمات في المنطقة العربية، مقولة خاطئة ومُضلّلة، فما يحدث فعلاً من «مؤامرات خارجية» يقوم على استغلال وتوظيف خطايا وأوضاع داخلية. لكن أيضاً، هو «قصر نظر» كبير، وجهل متعمّد أحياناً، لدى من يستبعد دور ومصالح «الخارج» في منطقة تشهد تحوّلات سياسية وأمنية مهمّة لعقود طويلة من الزمن، وهي منطقة الثروات الطبيعية والموقع الاستراتيجي والأماكن المقدسة لكل الرسالات السماوية.
صحيح أن هناك قوى وأجهزة أمنية لقوى إقليمية ودولية عديدة تتحرّك في بلدان المنطقة لخدمة غايات سياسية خاصة، لكن من غير الإنصاف تجاهل خصوصية العامل الإسرائيلي في التأزيم الأمني والسياسي لعدّة دول عربية، وفي مراحل زمنية مختلفة.
فهل يعقل مثلاً تناسي ما قامت به إسرائيل في سنوات عمرها الأولى منذ سبعين عاماً من تفجير مؤسسات أميركية وبريطانية في القاهرة ثمّ انكشاف ذلك لاحقاً فيما عُرف باسم فضيحة «لافون»، حيث استهدفت إسرائيل تحريض الأميركيين والبريطانيين على مصر آنذاك؟
وهل يجوز تناسي ظاهرة كوهين العميل الإسرائيلي الذي استطاع الوصول إلى مواقع رسمية سورية مسؤولة في مطلع الستينات من القرن الماضي؟
وهل نسي اللبنانيون والفلسطينيون الأعداد الكبيرة من العملاء الإسرائيليين الذين كشفوا عن أنفسهم مع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، إضافةً لعشرات من العملاء الذين تبرّأت منهم أحزاب لبنانية ومنظمّات فلسطينية وجرى نشر أسمائهم في الصحف اللبنانية أواخر العام 1982.
فإذا كانت إسرائيل وأجهزتها الأمنية تتسلّل إلى أهم المواقع السياسية والأمنية في دول كبرى، ومنها الحليف الأكبر لها أميركا، فلِمَ لا تفعل ذلك مع أعدائها الجيران لها؟!. فرغم كل العلاقات الخاصة بين أميركا وإسرائيل، فإن واشنطن رفضت الإفراج عن جوناثان بولارد، الأميركي اليهودي الذي قضى عقوبة 30 سنة في السجن منذ منتصف الثمانينات بتهمة التجسس لإسرائيل.
ثمّ ماذا عن الدكتور ماركس وولف الذي كان مسؤولاً عن جهاز الاستخبارات العسكرية في ألمانيا الشرقية الشيوعية، لكن بعد انهيار النظام الشيوعي فيها تبيّن أنه كان عميلاً لإسرائيل، وهو الذي كان يشرف في المعسكر الشيوعي على العلاقات الخاصة مع منظمات وأحزاب في دول العالم الثالث ومنها المنطقة العربية؟!.
فماذا يمنع أن تكون المخابرات الإسرائيلية قد جنَّدت أيضاً مجموعة من العملاء المزدوجين (مثل حالة ماركوس وولف) من الشيشان وصولاً إلى نيجيريا، مروراً بمعظم الدول العربية، لتولّي قيادة منظمات تحمل أسماء «إسلامية»، تماشياً مع مرحلة ما بعد «الحرب الباردة» ولخدمة الصراع الجديد المصطنع بين الغرب و«العدو الإسلامي»؟!.
من السذاجة طبعاً تجاهل كل ذلك واعتبار أن إسرائيل هي طرف محايد ومراقب لما يحدث في جوارها المعادي لها.
إن إسرائيل، بلا شك، أحسنت توظيف الأخطاء الرسمية العربية والإقليمية، كما أحسنت توظيف الظروف الدولية والمشاريع الأميركية في المنطقة، لكن لإسرائيل مشاريعها الخاصة التي تتجاوز أجندة الدول الكبرى، فإسرائيل لم ولن تتراجع عن مشروعها التفكيكي للبلاد العربية على أسس طائفية ومذهبية وإثنية. ففي الحالة اللبنانية، نجد أن إسرائيل لعبت دوراً مهماً في إشعال الحرب الأهلية عام 1975، لكنها فشلت في اجتياحها للبنان عام 1978 عندما فشل مشروعها في إقامة «دولة جنوب لبنان الحر». ولم ينهَر الكيان اللبناني آنذاك. ثم كان ذلك حافزاً لمشروع إسرائيلي أكبر باحتلال أول عاصمة عربية (بيروت) وحوالي ثلثي الأراضي اللبنانية عام 1982، وبارتكاب مجازر في مخيمات فلسطينية، وبإثارة فتنة حرب الجبل عام 1983، واستخدام كل أنواع التدمير لمقوّمات الحياة اللبنانية. فلِمَ هذا الاستبعاد الآن لأي دور إسرائيلي فيما يحدث في المنطقة العربية، سياسياً وأمنياً، وبما يحدث من حروب وأزمات في المحيط العربي ومع جواره الإسلامي؟!.
نعم، هناك عرب ومسلمون يقومون الآن بخوض معارك لصالح «أهداف إسرائيلية»، عن قصد أو بغير قصد، فهم عملياً يحققون ما يندرج في خانة «المشاريع الإسرائيلية» للمنطقة من تقسيم طائفي ومذهبي وإثني يهدم وحدة الكيانات الوطنية ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمة الواحدة. أليس مشروعاً إسرائيلياً تفتيت المنطقة العربية إلى دويلات متناحرة؟ أمَا هي بمصلحة إسرائيلية كاملة نتاج ما جرى ويجري في العراق وسوريا من وجود جماعات «القاعدة» و«دويلة داعش» والسعي لهدم وحدة الأوطان والشعوب؟!، وما حدث قبل ذلك في الحرب الأهلية اللبنانية، ثم الحرب الأهلية في السودان التي انتهت بفصل جنوبه عن شماله، ثم ما حدث ويحدث الآن في بلدان عربية أخرى؟!
إن هذا «الوباء الإسرائيلي» التقسيمي لا يعرف حدوداً، كما هي دولة إسرائيل بلا حدود، وكما هم العاملون من أجلها في العالم كله.
في فبراير 1982، نشرت مجلة اتجاهات -كيفونيم التي تصدر في القدس، دراسة للكاتب الصهيوني أوديد بينون مدير معهد الدراسات الاستراتيجية تحت عنوان «استراتيجية لإسرائيل في الثمانينات»، وجاء فيها: «إن العالم العربي ليس إلا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجية في العشرينات وأن هذا هو الوقت المناسب لدولة إسرائيل لتستفيد من الضعف والتمزّق العربي لتحقيق أهدافها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المجاورة لها، وتقسيم البعض الآخر إلى دويلات على أساس عرقي وطائفي». ثم تستعرض دراسة أوديد بينون صورة الواقع العربي، والاحتمالات الممكن أن تقوم بها إسرائيل داخل كل بلد عربي من أجل تمزيقه وتحويله إلى شراذم طائفية وعرقية.
ما سبق عرضه عن مخططات صهيونية وممارسات إسرائيلية في المنطقة، لا يعني أننا كعرب- ننفذ ما يريد الصهاينة أو أننا جميعاً أدوات وعملاء لإسرائيل! بل الواقع هو أننا بحاجة إلى التخطيط العربي الشامل مقابل وجود المخططات الصهيونية والأجنبية الشاملة.