في خضم الأزمات التي تعصف بالعراق، يتردد الحديث عن الإصلاح والتغيير، لكن جوهر المشكلة لا يكمن في الشعارات أو الخطابات، بل في المعايير التي تحكم السلطة نفسها. فالدولة لا يمكن إنقاذها عبر إعادة تدوير الوجوه أو تعديل بعض القوانين، وإنما عبر الانتقال الجاد من معايير السلطة القائمة على المصالح الشخصية والحزبية إلى سلطة المعايير التي ترتكز على أسس العدالة والكفاءة والمصلحة العامة.
معايير السلطة: عندما يكون الولاء أهم من الأداء
في ظل الأنظمة التي تحكم العراق منذ 2003، أصبحت معايير الوصول إلى السلطة ترتكز على الولاءات السياسية والطائفية بدلاً من الكفاءة والخبرة. فالأحزاب والمجموعات المتنفذة وضعت معاييرها الخاصة، التي تهدف إلى تكريس سلطتها، وليس إلى بناء دولة حقيقية.
وقد أدى ذلك إلى ظواهر خطيرة، مثل المحاصصة التي همشت الكفاءات وأفسحت المجال لغير المؤهلين في إدارة مؤسسات الدولة. فبدلاً من البحث عن الشخص المناسب في المكان المناسب، أصبح “الانتماء” معياراً أساسياً للتعيينات والمناصب، مما أدى إلى ضعف الإدارة وتفاقم الفساد وترهل مؤسسات الدولة.
سلطة المعايير: حين يكون الأداء فوق الاعتبارات الضيقة
إنقاذ العراق لا يتحقق إلا من خلال العودة إلى سلطة المعايير، أي وضع ضوابط صارمة تحكم كيفية إدارة الدولة واختيار القادة والمسؤولين وفق أسس مهنية بحتة، بعيداً عن المحسوبيات والمصالح الضيقة. ويشمل ذلك:
إصلاح النظام الإداري: بحيث يتم اعتماد معايير واضحة للكفاءة والتخصص في التوظيف والترقيات بدلاً من معايير الولاء الحزبي أو الطائفي.
استقلالية القضاء: ليكون معيار العدالة فوق كل الاعتبارات، فلا يُستخدم كسلاح لتصفية الخصوم السياسيين أو لحماية الفاسدين.
إعادة بناء المنظومة التشريعية: بحيث يتم سن قوانين تضع معايير صارمة للحكم الرشيد والمساءلة، بدلاً من القوانين التي يتم تفصيلها لخدمة الطبقة الحاكمة.
سيادة القانون على الجميع: بحيث لا يكون هناك أحد فوق القانون، سواء كان مسؤولاً أو مواطناً عادياً.
تحييد مؤسسات الدولة: بحيث تعمل لصالح جميع العراقيين وليس لخدمة فئة أو حزب معين.
نهاية عهد الفوضى أم استمراريتها؟
إما أن نختار السير في طريق بناء الدولة على أساس سلطة المعايير، أو أن نستمر في دوامة الفوضى التي تعززها معايير السلطة الحالية. المشكلة ليست في غياب الحلول، بل في الإرادة السياسية اللازمة لتطبيقها.
الشارع العراقي يزداد وعياً، ولم يعد يقتنع بالشعارات الفارغة أو بالإصلاحات الشكلية. وعليه، فإن القوى التي تريد البقاء في السلطة وفق المعايير القديمة ستواجه معارضة شعبية متزايدة. فالتغيير قادم، سواء بقرار وطني حكيم، أو بانفجار اجتماعي لا يمكن السيطرة عليه.
إن إنقاذ العراق لا يكون إلا بوضع مصلحة الدولة فوق مصلحة السلطة، واعتماد معايير الحكم الرشيد بديلاً عن معايير الولاء والمحاصصة. فإما أن ننتقل إلى سلطة المعايير، أو أن نبقى رهائن لمعايير سلطة التي لم تقدم سوى الفشل والانهيار .