منذ نكبة عام 1948، لم يتوقف نزيف الأرض والدم في فلسطين. تهجير، قتل، قضم للحقوق، وتوسّع استيطاني لا يعرف التوقف. لكن ما تشهده غزة اليوم يتجاوز في جسامته ووحشيته كل ما سُجل في ذاكرة النكبة الأولى. لقد أصبح السؤال المشروع: إذا كانت نكبة 1948 “نكبة”، فبأي وصف يمكن أن نُسمي ما يحدث الآن؟
نكبة مستمرة… ولكن مضاعفة
نكبة 1948 كانت مأساة ولّدت قضية. طُرد فيها أكثر من 700 ألف فلسطيني من ديارهم، وسُلبت المدن، ودُمّرت أكثر من 400 قرية. كانت النكبة إعلاناً بولادة الجرح الفلسطيني المفتوح. أما اليوم، فإن ما يحدث في غزة نكبة متجددة، ولكن مضاعفة، تتم أمام أعين العالم، وتُمارس بأدوات أكثر تقدماً، وتُبرر بمصطلحات أصبحت جزءاً من المعجم الدولي: “محاربة الإرهاب”، “الردع”، “الدفاع عن النفس”.
ولكن كيف يكون الدفاع عن النفس بقتل آلاف المدنيين، وتدمير أحياء كاملة، وقصف المستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين؟ كيف يُمكن تبرير هذه الوحشية المستمرة منذ أكثر من سبعة أشهر، والتي خلّفت أكثر من 35 ألف شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء، وأضعافهم من الجرحى والمفقودين؟
نكبة بلا ضمير عالمي
في نكبة 1948، كان العالم يخرج من أتون الحرب العالمية الثانية، وكان الصوت الفلسطيني غائباً في المنابر الدولية. أما اليوم، فإن غزة تصرخ بالصورة والبث المباشر، وتُعرض المآسي لحظة بلحظة على شاشات العالم، ومع ذلك، فإن الصمت الدولي أكثر تواطؤاً مما كان في الماضي.
لم تعد النكبة اليوم مجرد تهجير قسري أو استيلاء على أرض، بل أصبحت إبادة جماعية ممنهجة تُمارس على قطاع محاصر منذ 17 عاماً، يُعاقب فيه السكان جماعياً، وتُهدم فيه البنية التحتية بشكل متكرر، وتُمنع فيه أبسط مقومات الحياة.
أكثر من نكبة… إنها وصمة
نكبة 1948 سُجّلت في الذاكرة العربية كتاريخ بداية السقوط، لكنها حملت معها شعوراً بالأمل في المقاومة والعودة. أما ما يحدث في غزة اليوم، فهو وصمة على جبين الإنسانية، واختبار حقيقي لفشل المنظومة الدولية. الدول الكبرى إما داعمة للمجزرة، أو متواطئة بالصمت، أو عاجزة أمام ميزان القوة المنحاز.
فإذا كانت نكبة 48 مأساة، فإن ما يحدث اليوم جريمة موثقة
الفارق أن الفلسطينيين اليوم يوثقون مأساتهم بأنفسهم، ويحملونها إلى الوعي العالمي عبر كاميرات هواتفهم، وعدسات أطفالهم، وأصواتهم المبحوحة تحت الركام. لا مجال للإنكار، لا مجال للتبرير.
ولذلك، فإن ما تشهده غزة ليس نكبة فقط، بل كارثة إنسانية كبرى، وإبادة موصوفة، وعدوان لا يمكن إلا أن يُسمى باسمه الحقيقي: جريمة حرب مستمرة.
فماذا نسميها؟
نسميها: نكبة الضمير العالمي.
نسميها: نكبة الصمت العربي.
نسميها: نكبة الاستبداد الذي كبل الشعوب ومنعها من الوقوف مع غزة.
نسميها: أكبر جريمة في القرن الحادي والعشرين .
لكن الأهم، أن نسميها وقوداً للوعي، ونداءً لاشتعال الضمير الحر، لأن من لا يُسمّي الأمور بأسمائها، سيساهم بصمته في استمرار المجزرة .