نهاية العالم تصور لا مستقبل له

1

بول فيريليو نحت مصطلحات ومفاهيم تصف ما أصاب الحياة والطبيعة منذ تطور التقنيات الرقمية

مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة 

الرسام وليام تورنر متخيلا نهاية العالم (متحف تورنر)

يعود اسم بول فيريليو (1932-2018)، الكاتب والمعماري الفرنسي المتخصص بالتخطيط المدني الذي ارتبط اسمه بدراسات تناولت أخطار التكنولوجيا الحديثة، إلى الظهور بعد صدور كتاب له عن دار سوي في باريس بعنوان “نهاية العالم، تصور لا مستقبل له” (2023). الكتاب عبارة عن مجموعة من الدراسات تقع في 1248 صفحة وضعها بين الأعوام 1957-2010، أشرف على نشرها جان ريشه وقدم لها إيال وايزمان. يكشف لنا هذا الكتاب عن شخصية غير نمطية فكرت في وقت مبكر في تغيرات عصرنا، فطبع نتاجها الحياة الفكرية في النصف الثاني من القرن الـ20 وبداية القرن الـ21.

 على رغم وجود عدد لا بأس به من متابعي أعمال فيريليو وقرائه المخلصين، بدأ الاستناد إلى مؤلفاته بالتراجع منذ وفاته، مما دفع ببعض مريديه إلى إعادة تسليط الضوء على أفكاره، من خلال نشر هذا الكتاب الذي تضمن 22 دراسة وعدداً من الدفاتر والعروض غير المنشورة. تكشف هذه الدراسات عن فكر فيريليو المتعدد الأوجه ورؤيته الثاقبة والمستشرفة للمستقبل، هو الذي بدأ بتعلم حفر الزجاج وزخرفته، في وقت تابع فيه دروس فلاديمير يانكليفيتش وريمون آرون في السوربون، وتعاون مع هنري ماتيس وجورج براك وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين والفنانين.

تستدعي دراسات بول فيريليو الفضاء المرئي وتحولات العالم. ولعل المصطلح الأقرب إلى وصف كتاباته هو مصطلح الرؤية بمعنييه الحرفي والمجازي، ذلك أن نصوصه التي تتناول موضوع المكان وهندسته تتسم ببعد مجازي يقود قارئه إلى رؤية مسبقة للمستقبل، تجمع في الوقت عينه بين الفكر والفن. ففيريليو، الذي تدرب على يده المعماري الشهير جان نوفيل، هو فنان ومفكر على السواء. قاده إبداعه من الفنون المرئية، كالرسم والعمل على الزجاج والهندسة المعمارية، إلى الفلسفة والعلوم الاجتماعية ونحت المصطلحات والمفاهيم التي تصف ما أصاب العالم والطبيعة منذ تطور التقنيات الرقمية وغيرها من التكنولوجيات الحديثة. ولئن كانت الهندسة المعمارية من وجهة نظره، ابنة النظر إلى السماء وباب مفتوح على الخيال والعلوم والفنون والآداب، فإن رؤيته لهذا الفن الأول أضفت على أعماله فرادة وخصوصية.

تقاطع العلوم والفنون

011967519.jpg

كتاب “نهاية العالم تصور لا مستقبل له” (دار سوي)

لا يقيم بول فيريليو إذاً في علم واختصاص واحد، بل يقيم على تقاطع العلوم والفنون والإبداعات الإنسانية. ولعل تفكيره في السرعة وتأثيرها في الزمان والمكان والحياة والسياسة لم يجعل منه عالم اجتماع فحسب، بل فيلسوفاً مهتماً بالمسائل المتعلقة بارتدادات التكنولوجيات الحديثة على حياة الإنسان، لذا أطلق عليه بعض النقاد لقب مفكر “الحرب” و”السرعة”، هو الذي استبق ظهور “القنبلة الرقمية” ونحت مصطلح “البيئة الرمادية” التي تتفحص تلوث الفضاء أو “العولمة” التي تجعل العالم يعيش اليوم تحت إمرة زمن عالمي واحد.

تعتبر مسألة السرعة بلا أدنى شك المسألة المفتاحية لأعمال بول فيريليو، وقد خصها بتأملات مكنته من تقديم رؤية نوعية لهذه الإشكالية في زمن التنقل السريع والتواصل الفوري. ولعل السرعة بحكم تحديدها، تربط بين الزمان والمكان، فتجعل الإنسان يراهما كوجهين لواقع واحد. السرعة تجعل المكان يختفي لصالح لحظة كاملة تغير الحياة الإنسانية. فإن لم نفهم، على ما يقول فيريليو، أن السرعة أصبحت مطلقنا النهائي، وأن تجاهلنا النتائج المترتبة على التحولات التي فرضتها على المدن والعمل والنقل والسياسة والحرب والمعلومات والخيال، فإننا بالتأكيد نمنع أنفسنا عن فهم الأخطار والحوادث التي تحدق بنا.

نقطة البدء في فكر بول فيريليو اعتقاده أن كل تقنية جديدة ترتبط بالكوارث التي تولدها، بمعنى أن التغني بالمزايا الإيجابية للسرعة يترافق بالضرورة مع سلبيات نطلق عليها اسم “الحوادث” والتي لا تقع عرضاً أو صدفة. فالحوادث هي الثمن الباهظ الذي اختارت الحضارة دفعه حتى تكون السرعة في مقدمة كل شيء. فعندما اخترع الإنسان القطار السريع، اخترع في الوقت عينه كوارث السكك الحديد، وعندما اخترع السفن اخترع الغرق، وعندما اخترع الكهرباء اخترع الصعق الكهربائي، إلخ، ذلك أن نظام السرعة الشاملة يثير بالضرورة احتمال وقوع “حادثة شاملة متكاملة”. فليست الحادثة من هذا المنظار عرضاً، بل ما يجب أن يقع على نحو ضروري.

سرعة العولمة

paul-virilio-2007-4.jpg

المفكر والمعماري الفرنسي بول فيريلو (الجامعة الأوروبية)

 وبغية وصف طبيعة السرعة المعولمة وفهم عواقبها المختلفة، اقترح فيريليو تطوير حقل معرفي جديد أطلق عليه اسم “درومولوجيا” أي “علم السباق” أو “علم السرعة”، وهو لفظ نحته من اليونانية ليحدد به مجال دراسته، بهدف التمكن من فهم الاندفاع المتهور الذي يأخذ البشرية بعيداً من إيقاعها، من دون أن تعني السرعة نهاية العالم. إن الغرض إذاً من هذا العلم هو فهم إنسان النصف الثاني من القرن الـ20 وبدايات القرن الـ21 من خلال العلاقات التي ينسجها من منظار السرعة مع الزمان والمكان، هذا بالضبط ما تستكشف عنه منذ سنة 2021 مجلة “درومولوجيا” التي يترأس تحريرها المفكر والأستاذ السابق في معهد التخطيط المدني في باريس تييري باكو. فمهمة “الدرومولوجيا” إنما هي تنبيه الإنسان إلى هذه الحقيقة البديهية. فما الذي يجعل “الدرومولوجيا” علماً ضرورياً لفهم أحوال الإنسان؟ ولماذا يتسابق الإنسان كالمجنون للتنقل بسرعة أكبر؟ ولماذا يترافق هذا التسابق مع تقدم هائل للتكنولوجيا؟ وهل هذا السباق مجرد نزوة أم أنه ينذر بتحول أنثروبولوجي كبير؟

لم يكن فيريليو أول من طرح هذه الأسئلة وفكر في جوهر التقنية وتطورها السريع. قبله كتب جاك لافيت وهنري برغسون وجيلبير سيموندان وأندريه لوروا غوران وجاك إلول وغيرهم عن التقنيات، التي نظر إليها هايدغر نظرة نقدية قادته إلى فلسفة ذات منحى سراني. غير أن التقنية ظلت في نظر الفيلسوف الألماني مصير العصر الذي نعيش فيه وقدر الوجود الإنساني. من هذه الزاوية، كان التفكير في السرعة وتكنولوجيا الاتصال والإعلام والعالم الافتراضي الذي يخترق اليوم أجسادنا وينظم علاقاتنا بالآخرين وبالعالم، ليس فقط من جهة الخطر والتهديد الذي تحمله للإنسانية، بل من جهة الوعود التي تطلقها والآفاق التي تفتحها. هنا يرى فيريليو أنه قد آن الأوان للالتفات إلى جوهر السرعة والتكنولوجيات، لتقييم فعلها وانعكاساته العميقة على البيئة وعلى رؤيتنا للعالم بالمعنيين المادي والمجازي. ويبدو أن الثورات العلمية المتعاقبة التي كانت وراء هذه التكنولوجيات وآخرها الهاتف الخلوي والذكاء الاصطناعي تسهم على طريقتها في تحول الإنسان وتغير أنثروبولوجيته.

 إن “الخيط الناظم” في كل دراسات فيريليو هو أن مسألة السرعة تطارد الجميع، علماً أنه لا ينظر إلى السرعة بوصفها ظاهرة، بل بوصفها علاقة بين الظواهر. ولعله في انطلاقه من نظرية النسبية ومفهومها للحركة من خلال حركات النظر وموقع المراقب، حاول أن يرصد العالم المرئي وأن يتعرف إلى أشكاله كله. فبوصفه رساماً، عمل فيريليو على تحديد “الأشكال المضادة” والفجوات بينها التي تشكلت بحسب مسارات الناظر إليها أو الملتف حولها أو السائر في ما بينها. وبوصفه كاتباً ومفكراً تطلع بشكل مختلف إلى الأشكال نفسها من خلال التدقيق، على سبيل المثال لا الحصر، في الآثار التي تنتجها الصور الفوتوغرافية الملتقطة بواسطة الطائرات والأقمار الاصطناعية وكاميرات المراقبة التي تحاصر الأمكنة المدينية، قاده الدرس إلى خلاصة مفادها أن كل شيء أصبح مرئياً على الفور، مما يعني أن المكان قد اختفى ولم يعد الإنسان يرى إلا الشاشة، وأن “ضغط الوقت”، وفق المنطق نفسه لا بد أن يختفي بدوره ذات يوم، ذلك أن السرعة والزمان والمكان والمرئي تتعالق وتتقاطع، كما لو أن فيريليو يقول لنا إن رؤية العالم عندما لا تكون متاحة إلا بواسطة الآلة تتغير، فلا يعود العالم هو نفسه، ولا يعود الناظر إليه والمراقب لحركته هو أيضاً نفسه. ففي مقابل العالم المحسوس والعالم الطبيعي والجسماني المنظور إليه بالعين المجردة ثمة عالم آخر هو عالم “البصريات الكبرى” المؤلف من شبكات نقل الصور الفورية.

التحولات الطارئة

تجدر الإشارة في هذا السياق  إلى أن تفكير بول فيريليو في التحولات الطارئة على العالم المرئي والنتائج المترتبة عليها تترافق في الوقت عينه مع تأمل في العالم غير المرئي، الذي يستعير في الحديث عنه تعابير الإيمان ومسالك الروحانية، كما لو أنه يتطلع إلى ما وراء الزمان والأزلية، وكما لو أن وصفه للعالم المرئي واختفاء الزمان والمكان في بعديهما الإنساني، يجعلنا نتوصل إلى قناعة مفادها استشعاره وجود واقع آخر.

 أما المسألة المفتاحية الثانية في مؤلفات بول فيريليو فهي بالتأكيد مسألة العنف والحرب التي كانت وراء خوضه تجربة الكتابة. وقد عمل على وصفها وفهم أشكالها وتفحص تطورها وتبيان مظاهرها الأكثر غموضاً. وقد بدأ بالاهتمام بها منذ اختباره طفلاً القصف الذي طاول مدينة نانت عام 1943 واجتياح الألمان فرنسا، ودرسه ارتباط العنف بالتقنيات والسرعة وتعرفه إلى هندسة المخابئ العسكرية على ساحل المحيط الأطلسي، واعتباره أن العنف والحرب دائمان وملازمان للبشرية. غير أن ديمومة الحرب ليست في المعارك، بل في الاستعداد لها. فالحرب جزء لا يتجزأ من التاريخ.

تحدثت دراسات بول فيريليو كذلك عن مستقبل المدينة في علاقتها بالتكنولوجيا، وما ينتج منها من أزمة وقطيعة بين مركزها وضواحيها بسبب توسع الضواحي باستمرار، وانحسار مركز المدينة في مجتمع المعلومات وما بعد الصناعة والاتصالات السلكية واللاسلكية، وعن ضياع الكائن، وعن العيش في العوالم الافتراضية والتمثلات التكنولوجية وأنماط رؤيتها، موافقاً جان بودريار في مفهومه عن الاستبدال والتزييف أو المحاكاة.  

اقرأ المزيد

تناولت معظم دراسات فيريليو الرؤيوية إذاً الواردة في متن الكتاب موضوع السرعة في العالم وتبعاتها على الإنسان والاقتصاد والبيئة والجيوسياسة، بعد أن ربطت، كما سبق وأشرت، المكان بالتكنولوجيات التي تسمح باستجلائه وعبوره ومراقبته، كما تحدثت عن مساهمة القطار السريع والإنترنت والطائرة والقمر الاصطناعي وكل التقنيات المتخصصة بالتواصل والانتقال والبث، بالتضافر والتكامل، في التعريف بالمكان بوصفه حيزاً أو مجالاً ما زال يصغر ويتضاءل، لذا نجد فيريليو ينتقد هيمنة السرعة على العالم، إذ يرى فيها تدميراً لاندماج الإنسان في الزمان والمكان، وتزييفاً لطرائق تمثله ورؤيته للكون والوجود. وها هو ذا يقول لنا إن الحضارات القديمة لم تعرف أبداً ما نعيشه اليوم من سرعة، وإنها نظرت إلى العالم بوصفه شاسعاً. أما اليوم فقد قلصت السرعة العالم حتى بات قرية صغيرة جداً.

ولئن أضحت السرعة هي المقياس والقيمة الأولى لكل مجالات حياتنا، فإن النظر إلى كل ظاهرة أصبح يتم اليوم من زاويتها، لذا بتنا نرى نباتات تنمو بسرعة تتجاوز سرعة نموها الطبيعي، ونسمع بمناهج تعليمية تضمن التعلم السريع، ومسالك تتفاخر بإمكانية توفير التنقل والسفر الأسرع بين الأماكن المختلفة. وأصبح صناع الآلات الهيدروليكية والميكانيكية والإلكترونية والسيبرانية يتفاخرون بسرعتها الزائدة، بحيث أضحت السرعة أيديولوجيا العصر، فسيطرت على وعي الإنسان، كأنها شيء منه أو طبيعته الثانية.

باختصار يتطرق كتاب فيريليو الجميل إلى علاقة السرعة بتزلزل الزمان والمكان في الحياة الإنسانية، ويتفكر في تبعات هذا التزلزل على إدراكنا العالم المرئي وعلى طرائق وجودنا فيه، وعلى أنظمته الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية بالمعنى العسكري للكلمة. تذكرنا أطروحاته بعبارة شهيرة لحنة أرندت مفادها أن التقدم والكارثة وجهان لعملة واحدة. ويبدو أن نقده السرعة كأداة تفكيك لعالم الإنسان يفتح أمام قراء كتابه أسئلة لا حد لها.

التعليقات معطلة.