نهاية تاجر الحروب المتجول

2

جمال الكشكي – الشرق الأوسط

ذهب إلى واشنطن تداعب خياله أفكار توسعية، يريد التصديق عليها. جلس إلى سيد البيت الأبيض متوجساً من شبح لقاء الرئيس الأوكراني زيلينسكي. حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إقناع نفسه بأنه ضيف مختلف، يحظى بدعم كبير من حليفته الولايات المتحدة الأميركية، لكن توقعات نتانياهو خابت، لم تأتِ رياح البيت الأبيض بما تشتهيه تل أبيب، امتعض وصارع الصبر والصمت، بينما باغته الرئيس دونالد ترامب بما لم يتوقعه، فقد تم إلغاء المؤتمر الصحافي بينهما أولاً، ثم إلغاء الاجتماع الموسع بين وزيري الدفاع الأمريكي والإسرائيلي في البنتاغون ثانياً، كان ذلك مفاجأة كاملة، تلاها الرئيس ترامب بمفاجأة أقوى حين عقد مؤتمراً صحافياً يتكلم هو فيه بحضور نتانياهو، الذي لم يتحدث، ولم يتلقّ أسئلة سوى سؤال عابر في نهاية اللقاء عن سيناريو اليوم التالي في غزة.

توالت مفاجآت ترامب حين تحدث عن ضرورة إيقاف العمليات قائلاً: الحرب ستتوقف قريباً في غزة، وهذا التصريح لا يعكس رغبات نتانياهو، وأهداف زيارته إلى واشنطن، حاصرته الحيرة، وضاعفتها تصريحات ترمب حول إيران، حين قال: «هناك مفاوضات تجري مع إيران، غير مباشرة ستتحول إلى مفاوضات مباشرة».

زاغت نظرات نتانياهو، وهو الآتي إلى واشنطن من أجل الحصول على التصديق لتوسيع الحرب في منطقة الشرق الأوسط، هذه الأفكار والأحلام الوهمية، اصطدمت بعدم إدراك نتانياهو أن نهاية الشرق الأوسط قد تكون نهاية العالم، كما قال الفيلسوف الأمريكي ويل ديورانت، صاحب قصة الحضارة.

اختلطت أوراق نتانياهو، سيطر عليه الحذر، لم تفارق خياله صورة زيلينسكي في عيون الرأي العام العالمي، أطبق عليه صمت جديد، حينما عاجله ترامب بالمفاجأة التركية، مشدداً عليه «بضرورة معالجة الخلافات مع أردوغان بعقلانية»، لا سيما أن علاقة قوية تجمع الأخير بترامب. بدأت أوراق الأحلام تتمزق رويداً رويداً.

كان نتانياهو قد قرر الاحتكاك العنيف بتركيا على الأراضي السورية، وبالفعل قصف مطار حماة العسكري، ومركز البحوث العلمية بالعاصمة السورية دمشق، وبعض أطراف حمص في يوم واحد، بغارات وصلت إلى 21 غارة، غير الهجوم المباغت لقواته البرية على أطراف السويداء، وبالطبع كانت هذه الرسالة العنيفة من نتانياهو، تستهدف النفوذ التركي في سوريا، وهو أمر لم يعجب ترامب، الذي يريد إطفاء الحروب العسكرية والشروع في الحروب التجارية الاقتصادية التي يبرع فيها.

هذه الرؤية الترامبية، لم تأتِ على هوى نتانياهو، الساعي إلى توسيع الحرب في الشرق الأوسط بمساعدة الولايات المتحدة ذات القوة الفائضة، بهدف قيادة إسرائيل للشرق الأوسط، وفرض الخريطة التوراتية من النيل إلى الفرات، كما يتوهم نتانياهو، لكن ترامب يفكر في طريق آخر، وهو أن تكون أمريكا قوة اقتصادية عظمى، وقوة جغرافية متسعة، تطمح إلى ضم جزيرة غرينلاند، ودولة كندا في مرحلة أولى، ويشارك روسيا في أوكرانيا، باتفاق حول المعادن، كما يشاركها أيضاً في القطب الشمالي، فضلاً عن أن ترامب يداعبه دائماً حلم الحصول على جائزة «نوبل» للسلام، مثل الذين سبقوه من قادة العالم.

لذا كان جاداً أثناء المؤتمر الصحافي الذي تكلم فيه منفرداً، عندما قال: «لا بد من إيقاف الحرب بين روسيا وأوكرانيا»، وهنا أتوقف أمام قراءة سريعة لمضمون رسائل ترامب، لأجد أنها تعكس موقفاً مغايراً عما كان يجيش في صدر وعقل نتانياهو، الذي لاحقته ضربات الصدمة والمفاجأة، فبات الصمت حليفه، وراحت الأفكار تجري مثل القطار داخل عقله، ويقال إن الرئيس ترامب في مباحثاته المغلقة مع نتانياهو طالبه بضرورة وقف الحرب، والإفراج عن الرهائن، والتعامل بجدية مع محاكماته داخل وخارج إسرائيل.

إذن، الرسائل التي عاد بها نتانياهو من البيت الأبيض، تقول إن ثمة متغيرات مقبلة ستقطع الطريق على تاجر الحروب المتجول، ولن يجد مشترياً لبضائعه التي قطعاً ستكون بائرة في عصر مختلف، سماته التجارة في البضائع الحقيقية والاقتصاد، والصراع على من يمتلك الإنتاج الوفير من السلع.

حرب تجارية لها ملامحها المختلفة عن الحروب التي دارت في الشرق الأوسط أو العالم، يديرها ساكن البيت الأبيض من دون السماح لأحد أن يعرقل مشروعه الاستراتيجي لجعل أمريكا عظيمة مهما تكن العلاقات التقليدية التي نتجت عن الحرب العالمية الثانية.

فنحن الآن إزاء خطاب عالمي جديد مكتوب على أوراق مختلفة لا تنتمي إلى مفاهيم آتية من ماضٍ سحيق، ولا من أحلام أسطورية، لذا ألمح أن نتانياهو بات يقيم وسط ضباب سياسي واستراتيجي، لا يبدأ من فشل مشروعه التوسعي، ولا ينتهي عند التمرد الاجتماعي والعسكري والأمني في الداخل الإسرائيلي، ولا عند تخوم حلفائه الذين سيأتون في لحظة يفضلون فيها مصالحهم الذاتية الكبرى على ميراث قديم لم يعد صالحاً بوصفه تجارة سياسية.

ولعلني ألمح ذلك أيضاً في موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو حليف تقليدي وتاريخي لإسرائيل، وهو يقول: سأعترف بدولة فلسطين في يونيو (حزيران) المقبل.

إن الإشارات من واشنطن إلى باريس إلى الشرق الأوسط، تصل إلى مكتب بنيامين نتانياهو بأختام تطبع مشاهد النهاية لتاجر الحروب المتجول.

التعليقات معطلة.