التحرر من توحش الغابة انتهى إلى عبودية البرمجيات المتوحشة
لقد أصبحنا نعيش في الافتراضي أكثر من عيشنا في الواقعي (أ ف ب)
تغيرت القيم كثيراً يا صديقي، فبعضها فقد محتواه وبعضها اتخذ له مفهوماً معاكساً وبعضها تشوه وبعضها اختفى من القاموس ومن الحياة أيضاً يا صديقي.
العالم يزحف على حقل من قنابل الضياع والحروب المفتوحة والكراهيات، وأمام هذا التسونامي غير الرحيم على القيم وعلى حامل القيم يعيش العالم المعاصر ليس فقراً مادياً، لكن يعيش قبل ذلك أزمة فلسفة ويعيش أزمة أفكار جديدة، وأصبحت ولادة الأفكار الجديدة الإيجابية أكثر محنة وأكثر صعوبة من صنع آلة معقدة، ولقد اختفى الفيلسوف من الوجود أو يكاد وعوضه المبرمج الرقمي، واختفى المثقف الحقيقي وعوضه المؤثر البهلواني.
ومنذ ربع قرن تقريباً ندرس الفلسفة أو ندرسها في شكل تقليدي يتمثل في سرد تاريخ الفلسفة أو سرد حياة الفلاسفة ومن خلال ذلك نقوم باستعادة واجترار ما قيل عنهم وما قالوه، وما عادت هناك أفكار جريئة وجديدة يمكنها أن تهز العقل البشري وتحرك الضمير الإنساني وتخضه كما كانت كذلك حتى زمن جون بول سارتر (1905-1980) ومارتن هايدغار (1889-1976) وجاك ديريدا (1930-2004).
يبست شجرة الأفكار كثيراً، ولا يمكن إيقاف الحروب بالسياسة، فالحروب يتم لجمها بالفكر الفلسفي، ولكل حرب مقاومة فلسفية خاصة بها، وإسكات المدافع يكون بسيادة الأفكار الجديدة التي تطمئن الفرد والمجتمع وتجعله قادراً على أن يحلم ويعمل ويحب.
لا يمكننا إقامة السلام أيضاً بالنيات الطيبة ولا بالنيات الخبيثة، والسلام يحتاج إلى فلسفة لإقامته والحرص على ديمومته.
ولا يمكننا إيقاف ضخ الكراهية في المجتمعات من طريق المؤتمرات والتظاهرات والخطب، فالكراهية بكل أنواعها الجنسية والعرقية والدينية واللغوية يتم تجفيف منابعها بالأفكار الفلسفية الجديدة التي تكون قادرة على قراءة وتفكيك هذا العالم المخيف والمتوحش الذي نعيش فيه بكل جرأة وصدق وتضحية.
إننا نعيش أزمة فكر وتفكير حادة ومزمنة وعالمية، وفي زمننا هذا يبدو الذكاء الاصطناعي يجاور الغباء المصنع والإنسان المعلب، ولقد أصبح الفلاسفة الجدد يتكلمون كالإعلاميين والسياسيين والفقهاء ويتدافعون على شاشات القنوات التلفزيونية.
وحين يغيب الفكر والتفكير ويغادر الفيلسوف قلعته الأصيلة والخاصة، وقلعة الجندي الذي يراقب ويحرس ويحلل كل ما يجري على الشبكة العنكبوتية الإنسانية من أفكار وسلوكيات الإنسان اليومية، فاعلم بأن العالم، فرداً وجماعة، بلداناً وأمماً، بأن البشرية قد أضحت قادرة على اعتناق الجنون ديناً والانتحار سبيلاً جديداً للحياة، وفي مثل هذا الحال الذي هو حالنا اليوم تساقط جراء ذلك أوراق شجرة الأخلاق ورقة ورقة، وتتعرى الشجرة من دون أن ينتبه لذلك العري أحد.
العالم يا صديقي يدخل مرحلة أزمة أخلاقية خطرة ومعقدة، أزمة تشيدها وتحرسها وتسقيها سلسلة من قيم الاستهلاك التكنولوجي والبضائعي، ولقد أصبحنا نعيش في الافتراضي أكثر من عيشنا في الواقعي.
وفي هذه الأزمة الأخلاقية يقترب الإنسان شيئاً فشيئاً، يوماً بعد يوم، من الآلة الباردة المفاصل، يقترب في تصرفاته من قيم البرامجية ويبتعد من التفكير.
التفكير عملية فيها حرية الخطأ والصحيح أما البرامجية ففيها غباء مغلف بالتمظهر في الفهم المطلق.
في غياب الفلسفة يخرج الإنسان المعاصر من سلالة “الحيوان العاقل” ليدخل في مرحلة اكتساب جينات سلالة الآلة القاتلة.
السلوك الإنساني جميعه يتأسس في مصفوفات من المفاهيم المتحركة التي تعكس فلسفة الحياة الجماعية والفردية، وفي ظل هذا السقوط المريع للقيم الذي نحن شهداء عليه الفاعلون فيه تنهار قيمة معنى “الصداقة”، الصداقة التي هي أسمنت الحياة الجمعية والجماعية التي تتجاوز علاقة الدم والقرابة والجغرافيا واللغة والثقافة، وهي، أي الصداقة، القادرة على مقاومة ثقافة الخوف والتوجس، القادرة على توسيع مفهوم معنى الآخر الذي هو جزء منا ونحن جزء منه.
وحين نتابع مفهوم “الصديق والصداقة” كما هو متعارف عليه في لغة تعامل الإنسان المعاصر اليوم، سنجد بأنها فرغت من دلالاتها الأصلية الرئيسة والفلسفية.
ولقد جردت التكنولوجيا الحداثية الصماء ببرمجياتها كثيراً من المفاهيم الإنسانية الكبرى من مفاهيمها، ومن لبها بدلت المعنى باللامعنى وعرت شجرة الأخلاق من أوراقها وقربت الإنسان من غابة الروبوت الموحشة بعد أن كانت الفلسفة عبر مسيرتها الشقية تعمل ولزمن طويل على إبعاده وتحريره من ثقافة وسلوك الغابة الحيوانية.
إذا كانت الفلسفة بترسانة مفاهيمها المركزية قد عملت على إخراج الإنسان من الغابة وتحريره نسبياً من توحشه الحيواني، وحدث كل ذلك من طريق إعادة الاعتبار للعقل وتشغيله وتكريمه، فإن التكنولوجيا الراهنة ترسل هذا الإنسان مرة أخرى إلى غابة أكثر توحشاً من الأولى وهي غابة البرمجيات التي يختفي فيها العقل ويتقدم فيها الاستهلاك العنيف والغباء المبرمج والمعمم والمتوحش.
واليوم تسأل أي أحد عينه على الشاشة الذكية عن طبيعة الصداقة والصديقة فيجيبك وبكل ثقة بأن له 5 آلاف صديق، ويتأسف لأن طبيعة وقوانين البرمجة في “ميتا” أو “فيسبوك” لا تسمح له بأكثر من هذا العدد، وتسأله هل تعرف أصدقائك وصديقاتك الـ 5 آلاف جميعهم؟ ما شكلهم؟ ما معاناتهم؟ ما مشاغلهم؟ فيقول هناك كمشة قليلة حاضرة على صفحتي وتعلق على مناشيري برفع صورة الأصبع الأزرق أو بصورة القلب الأحمر.
ويضيف محدثي وعينه على الشاشة دائماً بأنه يعتذر لكثير من طلاب وطالبات الصداقة، فهو لا يستطيع بحكم قوانين كمية الأصدقاء كما تمليه البرمجيات أن يضيف أصدقاء فوق 5 آلاف صديق.
ومثل هذا الحديث أو الحوارات اليومية المشابهة التي نسمعها باستمرار ينم عن جنون حداثي، وعن دخول الإنسان في خانة من الخبل الأخلاقي من الهستيريا الاجتماعية، فمثل هذا الكلام الذي يحمل قيمة أخلاقية جديدة يؤكد بأن الآلة ببرمجياتها أصبحت هي التي تحدد مسار العلاقة الحميمة للإنسان، كعلاقة الصداقة التي هي مركز حياتنا الاجتماعية.
ونقرأ أيضاً بعض المناشير التي يقول فيها أصحابها “من لا يتابع منشوراتي سأسقط عنه صداقتي وسأحظره وأستبدله بطالبي صداقتي الآخرين والذين هم في طابور الانتظار”، وحين نقرأ هذه العبارة جيداً من الناحية الأخلاقية والفلسفية فإننا ندرك بأننا في مربع خطر من انهيار تاريخ الأخلاق البشرية حيث الصداقة تخضع للانتظار وللإسقاط والشطب والمحو والحظر.
وجميل ما وصل إليه الإنسان اليوم من تقدم علمي وتكنولوجي مبهر، لكن كل هذا التقدم لا يمكنه أن يوصل الإنسان إلى مفهوم السعادة إلا إذا كانت هذه النعم التكنولوجية الكبيرة تتقدم في ظل رؤية فلسفية وأفكار متجددة وأخلاق تحفظ قيم الإنسان في جوهره.