مشرق عباس
سيمرّ وقت طويل على أية حال، قبل أن نجد حلم القناة الجافة العراقية أو ما بات يُسمى «النهر الثالث»، يتحوّل الى حقيقة، وستكون حينها حقيقة تتغير بسببها ومن أجلها أولويات العراق الإقليمية والدولية، ومعها أولويات منطقة الشرق الأوسط، التي تمتلك دولها بطرق مختلفة حصصاً في قرار حفر هذا النهر.
الحديث هو عن ذلك المشروع التاريخي الذي يحوّل مدينة البصرة على الخليج العربي الى ميناء عملاق يمثل بوابة طريق بري وسككي هائل يربط جنوب شرقي آسيا والخليج بأوروبا، والذي طرح منذ اللحظة الأولى لإعلان الدولة الحديثة في العراق بداية القرن الماضي، لكنه لم ير النور أبداً. يمكن القول إن المشروع وضع على الطاولة الإقليمية والدولية أخيراً في شكل جدي، وبدأت خطوات واضحة لكنها بطيئة لإنجازه، لا تقف عند التدفق المضطرد وغير المسبوق لشركات دولية كبرى الى البصرة، لحجز مكان في ترتيبات النهر الثالث، ومنها تلك الخاصة بتأجير مساحات على الورق في ميناء «الفاو» الذي قد يشهد أيضاً تسارعاً في إنجازه خلال السنوات المقبلة، بل تتجاوز ذلك الى حضور مشابه في الموصل، التي من المفترض أن تتحول بدورها الى ميناء بري آخر.
يتحدث السياسيون العراقيون المنشغلون بنظريات المؤامرة في الكواليس، عن معارضة إيرانية كانت أحد المعرقلات الإقليمية المؤثرة أمام المشروع، وأن تلك المعارضة ترجمت بالفشل في المضي بخطوات جادة لتشييد ميناء الفاو الذي كان يمكن أن يرى النور قبل خمس سنوات من اليوم، كما يتحدثون أيضاً عن ممانعة عربية له، كان ميناء مبارك الكويتي وجهاً من أوجهها، وعن سوء تقدير سياسي لتركيا، وهي الشريك الإقليمي الرئيسي في مشروع النقل البري.
الواقع، أن المعرقلات العراقية الداخلية كانت أكثر فداحة من الموانع الإقليمية إن وُجدت حقاً، فالعراق لم يطرح نفسه كراع محتمل لحركة التجارة الدولية، والقوى السياسية المرتبكة والمشغولة بالتفنن في نهب عائدات النفط، لم يكن ضمن أولوياتها الاستثمار في ميناء استراتيجي قد يتطلب عقداً كاملاً لإنجازه، يعيد على أساسه ومن أجله ترميم العلاقات الداخلية والخارجية المتصدعة.
فالنهر البري الذي من المفترض أن يمر بمدن شيعية وسنية وكردية وتركمانية ومسيحية، كان عليه أن يتجاوز أولاً مشكلة التناحر والحروب العراقية ليقنع العالم بإمكان ضمان توافق وطني على حمايته على المدى البعيد، وهو أمر لم يكن زعماء الطوائف وقادة الحرب الأهلية والمستثمرون فيها مقتنعين بإمكان حدوثه.
كما أن الحديث عن مثل هذا المشروع كان يتطلب إعادة تمركز عراقي في منطقة الشرق الأوسط برمتها، يضمن بناء شراكة سياسية حقيقية مع دول الجوار، لا الانغماس في المعسكرات الإقليمية وتحويل بلد منهك خرج للتو من محنة الحصار الاقتصادي الدولي، الى جندي في صفوف الجيران، وملعب للطموحات الإقليمية المتهورة.
مؤتمر الكويت لإعادة إعمار الموصل، والذي يقام في منتصف شباط (فبراير) بمشاركة دولية واسعة، يفهم في إطاره العام باعتباره خطوة لإعادة ترميم مرحلة ما بعد «داعش»، لكنه في رؤيته ودلالات مكان انعقاده وخريطة المساهمين فيه، يمثل أول شراكة عربية وإقليمية ودولية جادة لوضع «النهر العراقي الثالث» موضع التنفيذ.
ثمة حاجة تتجاوز رعونة وقصر نظر مجموعة أحزاب وشخصيات سياسية عراقية مهزوزة، الى أن يكون قرار النهر الثالث أبعد من الاجتهادات الشخصية، وخارج الحسابات المذهبية والقومية والانتخابية، وأن تتحول ضماناته الى التزامات عراقية طويلة المدى أمام المجتمع الدولي برمته، وكل تلك الاشتراطات لم يكن في المقدور الحلم حتى بتحقيقها، لولا أن الشراكة الدولية في الحرب على «داعش» أنتجت بيئة إيجابية جديدة، قد تفصح عن نفسها في مؤتمر الكويت المرتقب.
أن يتحول العراق الى معبر جديد واعد لحركة التجارة الدولية، لم يعد مجرد حلم، لكنه لم يصبح واقعاً بعد، وهو يحتاج الى مزيد من الجهود العراقية لإثبات قدرة هذه البلاد على إنتاج السلام والتعايش لشعبها وللعالم، وحينها يمكن الحديث عن المستقبل.