حازم حسين
إن لم تُوحِّد الأزماتُ الناس؛ فلا خيرَ فيها ولا فيهم. وما يقعُ على كاهل الفلسطينيين تخطَّى وصف الأزمة منذ عقدين تقريبا، وليس عند محطة «الطوفان» وتداعياته كما يتراءى للبعض. ومَظنّةُ النفاذ إلى غاياتٍ وطنيَّة من قناة الفصائليّة والتناحر لا تَنُمُّ إلَّا عن عقلٍ مريض، وخيالٍ قاصر، ونفوسٍ غير سوية.. وإذا كان العدوُّ يُعَمِّمُ بطشَه على الجميع بالتساوى؛ فلا عُذرَ لِمَن يُصرّون على مُلاقاته فرادى.
كلُّ بحثٍ لا يبدأ من ترميم البيت وجدرانه المُتداعية على ساكنيه؛ إنما يخدم الصهاينةَ ومشروعَهم الإلغائىَّ المفتوح، ولو ادَّعى أنه يُرتِّبُ الأولويَّات، ويُقدِّمُ وقفَ المقتلة على غيرها من الحاجات الضرورية. وإقبال الفصائل على مساراتِ التفاوض بين العواصم، يتعيَّن أن يُوازيه إقبالٌ مُتزامن على تصفية الخلافات البَينيَّة، وتقدمة الفروض الواجبة تحت الخيمة الواحدة؛ بما يُؤكِّد حُسنَ النوايا أوّلاً، ويُرشِّدُ التنازُلات الاضطرارية لاحقًا، لخصمٍ لا يُبهجه شىء قدر الانفراد بالنافر من القطيع، واتِّخاذ الشاة الشاردة موضوعًا وحيدًا للنزاع، ووسيلةً سهلة لاقتناص ما كان عَصيًّا عليه فى عقود النار والدم.
وما من تدليسٍ يفوقُ الإصرار على حصر المسألة فى صفقةٍ مع الاحتلال؛ إذ حتى لو عاد نتنياهو وحكومتُه العنصريّة المخبولة إلى شىءٍ من الرُّشد، أو فُرِضَ عليهم من الخارج؛ فستظلُّ المشكلةُ قائمةً داخل فضاء النكبة الثانية وبين المُتسبِّبين فيها. ولنفترض جدلاً أنَّ تل أبيب نزلت على شروط التسوية وإفساح المجال لليوم التالى؛ فعن أيّة سُلطة أو ترتيبات يُمكن الحديث، وليس فى فلسطين اتفاق جامعٌ على ما بعد الحرب، وما يُرَاد للقطاع فى مُستقبله القريب والبعيد؟!
تُصرُّ حماس على أن تكون الثابتَ الوحيد فى المُعادلة؛ حتى مع ادِّعاء أنها تُرحِّب بتسليم الزمام إلى إدارةٍ تكنوقراطية مُستقلّة. ولا معنى للإصرار على استبعاد السلطة الوطنية بكامل ظلالها الرسمية؛ إلا أنها تختصمها فى شرعيتها ووضعها القانونى، كما تفعل إسرائيل، وتريد أن تظلَّ حاكمًا من وراء ستار، وقادرةً على إفساد أية تصوُّراتٍ لا تتناسب مع مصالحها التنظيمية والأيديولوجية الضيقة. ولا إشارةَ أبلغ مِمَّا كان فى الآونة الأخيرة، وموقف الحركة من مؤتمر المجلس المركزىِّ لمنظمَّة التحرير فى «رام الله» أواخر الأسبوع الماضى.
أخطأ الرئيسُ عباس من دون شكٍّ، وتغلَّب الانفعالُ لديه على العقل والرزانة السياسية. لم يكن مُوفّقًا فى وصف الحماسيِّين بكلمةٍ نابية؛ وإن كان مُحقًّا فى نقدِه لسلوكهم طوالَ الشهور الماضية. للرجل أدوارٌ تاريخية لا تُنكَر؛ كما أنَّ عليه مسؤولياتٍ تنبعُ من صِفَته الاعتباريّة، وتُوجِب أن يكون أداةَ تجميعٍ لا تفريق.
والأهمّ أنَّ الإصلاح يتجاوز تعيين نائبٍ للرئيس، ويمتدُّ إلى حاجةٍ ماسّة للإصلاح والهيكلة الشاملة، ومُداواة شقوق المُنظَّمة فى تركيبتها الحالية، جنبًا إلى جنب مع العمل على توسيعها، واحتواء الخارجين على رمزيَّتها الوطنية، وتمثيلها الشرعىِّ الوحيد للشعب الفلسطينى.
والخطأ على ما فيه من تبسيطٍ للصورة، وإخلالٍ بالواجبات؛ فإنه نابعٌ بالأساس من انفرادٍ فصائلىٍّ بمسائل وجوديَّةٍ عميقة، وتقعُ فى صُلب المصالح الجماعية التى لا يحقُّ لتيَّارٍ الاستئثار بها، أو فَرض رُؤاه فيها على الجميع، وتسييد الحسابات الشخصية على غيرها من الرؤى والأفكار.
ومن دون تبريرٍ؛ فالرجل فى انفلاته كان مُجرَّد «رَدَّ فعلٍ» على خطايا ينكرها أصحابها، ويرفضون الاعتراف بها، ناهيك عن السير فى اتجاه الاعتذار والتصويب. استنكار لإنكار السلطة، وضيق من تضييق أفق القضية. وبقَدر الملامة عليه فى الانفعال، وتجاوز ما يُمثّله من أرضيَّةٍ وطنية يتوجَّبُ أن تكون جامعة؛ فالأَوجبُ أن يُعاد النظر للصورة فى تركيبها المُعقَّد؛ وألَّا يُكتَفَى بالمشهد الأخير لإثارة الغبار على كلِّ المشاهد السابقة.
استبقَ الحماسيِّون المُؤتمرَ بإعلان مُقاطعته مع حركة الجهاد الإسلامى، وكلاهما خارج المُنظَّمة أصلاً ولا يعترفان بشرعيَّتها. والطرح على تلك الصورة المُلتبسة؛ إنما يُغيِّبُ تاريخًا طويلاً من التنازُع الأيديولوجى، لصالح سرديَّة أُصوليّة تلفظُ أنفاسَها الأخيرةَ فى الميدان، وعليها ألَّا تقفزَ بالقضيّة وما تبقَّى منها فى النار أو المجهول؛ حتى لو كانت مُستَلَبةً لحساب نزعةٍ انتحاريَّة تتسلَّطُ على قادتها، وتُحوِّلُ النضالَ ومساراته الطويلة المتشابكة إلى لعبة «روليت روسى».
واجبُ اللحظة ينصرفُ إلى الإنقاذ حصرًا؛ وفى تلك المهمَّة عنوانٌ واحدٌ لا تُنازعه أيّة عناوين أُخرى؛ مهما بدت جذّابةً وعاطفية. وإن كانت فصائلُ الطوفان خاسرةً لا محالة؛ فليكُن ذلك لرصيد فلسطين وبقيَّة قُواها الحيَّة، ولأجل إعادة بناء المشروع التحرُّرى وانتشاله من الضياع؛ لا للإجهاز عليه وإعادته لما قبل أوسلو والانتفاضة الأولى وتجسيد القضية فى كيانيَّة مُنظّمة التحرير. الإنقاذ ليس وقف النار فحسب؛ تل مُغالطة كُبرى، ما لم يكتمل الإطفاء بالتبريد، واستعادة المسار الضائع.
حلَّ وفدٌ حماسىٌّ على القاهرة للمرَّة الثانية فى غضون أسبوع. والاقتراحات تتداخلُ وتتمازج فى الكواليس منذ ستّة أسابيع تقريبًا، بين فكرة المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف لتجديد الهُدنة، والردِّ الإسرائيلىِّ عليها مشمولاً بشَرط نَزع السلاح، والبديل المصرىِّ الساعى لإعادة تفعيل اتِّفاق يناير ببقيَّة مراحلِه الثلاث، وصولاً لمُقتَرَح الحركة نفسِها عن «الصفقة الشاملة» لقاء تهدئةٍ تمتدُّ بين خمس وسبع سنوات.
وغالبُ الظنِّ أنَّ تطويعَ نتنياهو للتسوية الكاملة ما تزالُ عَصيَّة حتى الآن، ولم تنضجُ ظروفُها تمامًا، وأقصى ما يُؤمَل أن يسير فى تهدئةٍ ظَرفيَّة تستبقُ زيارة ترامب للمنطقة، وتحتوى تداعياتها، وتتحسَّبُ لتطوُّرات المفاوضات النوويَّة بين واشنطن وطهران برعايةٍ عُمانية.
وعقدةُ الحَبل هُنا؛ أنَّ اليمين الصهيونىَّ الحاكمَ لم يَقضِ وطرَه من الحرب. لكنه يستندُ فى كثير من تكتيكاته إلى سياق التنازُع القائم بين الفلسطينيين، وأنه لا بديلَ عن «حماس» فى غزَّة، ولا وفاقَ على خطَّة وطنيَّةٍ تُجابه مشروعَ تسييل المُواجهة، تمهيدًا لابتلاع الجغرافيا وإزاحة الديموغرافيا تحت سقف التشظِّى وغياب الحلول الذاتية.
وفى مناخٍ كهذا؛ لا يبدو أنَّ الهُدنةَ قد تكون حلًّا عَمليًّا، أو مخرجًا نهائيًّا من حال الانسداد الراهنة؛ بل على الأرجح ستكون مُقدِّمةً لتعقيداتٍ أكبر وأشدّ استحكامًا، لا سيما بعدما يزول أثرُ العاطفة ودعايات الصمود، ويقفُ شُركاء المأساة على أنصبتِهم منها، وعلى واجباتهم فى التسانُد وإعادة بناء ما هدَّمَته المُغامرات.
لا يملكُ الفلسطينيِّون أيَّة قُدراتٍ ذاتيّة للتعافى. تتوقَّفُ فاعليَّةُ الخطوة على شبكةٍ عريضة من التوافُقات المطلوبة من الخارج، وتحكمُها اعتباراتُ الثقة فى المسار، والاطمئنان إلى أنه لن يُعيد إنتاج الانحرافات ذاتها على فواصل مُتقطّعة.
باختصار؛ كانت لحماس ولايةٌ كاملةٌ على التأجيج، من جهة اتِّخاذ «السنوار» قراره بصناعة الطوفان فى الزمان والمكان المُناسِبَين؛ لكنها كانت صلاحيةَ المرَّة الواحدة، وانقضت تمامًا مع الرصاصة الأُولى. وكلُّ ما بعد ذلك إنما يقومُ على أكتاف آخرين: الصهاينة بالتخلِّى عن الحرب، والأمريكيين بضمان عدم تكرارها، والمساهمين الدوليين بالانخراط فى ورشة التعافى المُبكِّر وإعادة الإعمار.
ولا حاجة هُنا للتذكير بأنَّ الحركة تُمِّثل الطرفَ الأضعف فى اتخاذ القرار وترسيم المسارات، ولا اختيارَ لها إلَّا بين أمرين: البقاء تحت النار مع فاعليَّةٍ تفاوضية جُزئيَّة تتلاشى ببطء، أو اعتماد خطط الإنقاذ المطروحة عليها مع التسليم بالخروج من الصورة.
ورقةُ المُمانَعة احترقت فى أيدى أصحابها. الحوثيِّون آخر الباقين على خطِّ القتال، ومناوشاتُهم لا تُنتجُ أثرًا حقيقيًّا ملموسًا، فضلاً على تعريضهم لضرباتٍ أمريكية، ستنتهى حال تواصُلها إلى تصفية أُصولهم وتعطيل نا تبقّى من قدرة لديهم على الإرباك.
الفصائلُ العراقية المنخرطة فى المحور نُحِّيَت عن المواجهة بتوجيهاتٍ إيرانية، وحزبُ الله عاجزٌ عن استدراك تأثيرات «حرب المُشاغَلة والإسناد»، وليس فى وارد تجديدها تحت أىِّ ظرفٍ موضوعىٍّ؛ وإن حدث فسيكون على سبيل الضغط وتحسين شروط طهران فى المُفاوضات النووية. ما يعنى أنَّ «الطوفان» بكلِّ خسائره أفضى إلى مكسبٍ وحيد، يتمثَّل فى ترتيب الطاولة بين الجمهورية الإسلامية والشيطان الأمريكى الأكبر؛ ولعلَّ هذا كان الهدف الكبير من العملية بالأساس.
وبكلِّ الحسابات؛ فليس لدى حماس ما تُعَوّل عليه من الخارج. ربما يضيفُ التصلّب الراهن إلى أوراق المفاوضين الإيرانيين، ويُحسِّنُ موقفَهم بشأن المسموحات والتنازُلات المأمولة من إدارة ترامب؛ لكنَّ المسار بالإجمال لن يُؤثِّر على الوقائع ومجرياتها فى غزّة.
حال نجاح المفاوضات فى إنتاج اتِّفاقٍ؛ فلن تكون الأذرعُ الإقليميَّةُ خارجَه، وستجد حماس نفسَها وحيدةً مُجدّدًا، وبأكثر مِمَّا كانت منذ أكتوبر 2023، وإن أخفق فقد يتبعه تصعيدٌ عسكرىٌّ تجاه المشروع النووى، وهو إن خفَّف الضغطَ على القطاع؛ فقد يُهدِّد بسَحب الضوء الخافت عنه تمامًا.
اللحظةُ الحالية فرصةٌ مُواتية لإنجاز ترتيباتٍ تخدمُ القضيَّةَ الفلسطينية، ولا تتركها عرضةً للاستقطاب والتجاذُبات الإقليمية. والخدمةُ هُنا ليست على معنى الرجوع إلى السادس من أكتوبر، أو أن ينفُضَ القسَّاميِّون غبار المعارك عن ملابسهم كأنَّ شيئًا لم يحدث؛ إنما يُقصَدُ منها الاختيار بين السيِّئ والأسوأ فى الوقت المناسب، وبما يُرشِّدُ الخسائرَ ويُطمئنُ الناسَ إلى إمكانية استدراك الهزيمة، وإعادة تفعيل النضال على مُرتكزاتٍ أكثر تعقُّلاً وديناميكيّة، ومن دون مُقامراتٍ فجّة لا تُنتج إلَّا نكباتٍ تتناسلُ من أرحام بعضها.
والقصدُ؛ أن تكون «محرقة الطوفان» مَصهرًا لصَبّ المُكوِّنات الوطنية فى سبيكةٍ واحدة، تحت عنوان جامع عريض، وبتوازُنٍ دقيق بين السياسة والقوَّة، وبين تنوُّع الأيديولوجيات ووحدة المسار والمصير، والمهم أن تكون بمعزلٍ عن لعبة المحاور والأحلاف، وعن الانتماءات الوَلائيَّة التى تتجاوز فلسطين، وتُضحّى بها لحساباتٍ ميليشاويَّة أو «فوق وطنيّة».
وعليه؛ فالتحدِّى الأكبر ليس فى الوصول إلى تفاهُماتٍ ظرفيَّة أو طويلة الأَمَد مع الاحتلال، ستحدثُ لا محالةَ لأنه لم يَعُد لدى الفصائل ما تفرضُه أو تَقدِرُ على حمايته. لكنَّ السؤال فى الميقات الذى تكون عنده التضحياتُ مُثمرةً وتحت الاحتمال، أو تكونُ اضطراريَّة عاليةَ التكلفة وبلا أثرٍ نافع.
وهُنا؛ لا يكفى أن تُلمِّحَ حماس إلى قابليَّة تسليم السُّلطة لإدارةٍ مَدنيَّة غير سياسية، ولا أن يختزل الرئيس عباس واجباته الإصلاحيّة فى تعيين نائبٍ له فى المُنظَّمة أو الرئاسة. المسألةُ أكبر من الإيحاء بالإصلاح بدلاً عن الهيكلة الشاملة، وأكبر أيضًا من إبداء نِيَّةٍ استعراضيّة، لا يُؤازرها دليل ملموس، على النزول عن حُكم القطاع، مع فداحة ما فيها من إبقائه مُنفصلاً عن كامل الجسد، أو تعريته من شرعيَّة السلطة الوطنية وظلِّها القانونى، وهو أكثر نفعًا اليوم من كلِّ البدائل المطروحة؛ مهما بدا باهتًا أو مُفتقِدًا للوَهج والحرارة.
تحتاجُ حماس إلى إعادة تعريف نفسِها أوّلاً؛ ثمَّ النظر للآخرين جميعًا من زوايا صحيحة. السلطةُ ليست عدوًّا مهما بلغَ التنازُع بينهما، والانطلاق من مساواتها بالصهاينة، بل وتقديم الأخيرين عليها بالتفريط لهم فيما لا تقبلُ منحَها إيَّاه؛ إنما يَنُمُّ عن خِفَّةٍ عقلية ونفسية، واختناقٍ بالأيديولوجيا لدرجة الموت وكَتم أنفاس القضية اللاهثة أصلاً.
المُمانَعة لم تكن سنًدا حقيقيًّا، بخيانةٍ مقصودةٍ أو خذلان غير مُرتَّب، والأَخوَنةُ حزامُ نارٍ هدَّد المنطقة كلَّها طويلاً، ولا حصافةَ فى الانتماء إليه على حساب إغضاب الشركاء أو إثارة مخاوفهم. حتى الآن؛ لم تُراجع الحركةُ موقفَها من الأردن، ولم تستشعر حجمَ الخطيئة فى بيان إسنادها لخلايا إرهابية استهدفت بلدًا شقيقًا.
دولُ الاعتدال أخلصُ الأطراف لفلسطين؛ وإن لم يَكُن بالالتزامات التاريخية والاستقامة الضميرية، فعلى الأقل لتشابُك المصالح والأولويات؛ ولأنها تُمثِّل حائطَ الصدِّ الأخير ضدّ التهجير وتصفية أُصول القضية الكبرى.
كان الطوفانُ قرارًا فرديًّا خالصًا، وبرّرته الحركة تحت عنوان الحقِّ فى المقاومة، وهو ثابتٌ وأصيل ولا خلافَ فيه؛ لكنها اختزلت العامَ فى الخاص دون أحقيَّة، وتنفردُ بالتفاوض على مستقبل الأرض؛ ولو انزلقت إلى كوارث أكبر، فكلّ ما يهمّها أن تكون صاحبة القرار الأخير والرصاصة الختاميَّة.
وبقَدر الطليعيَّة التى انتدَبَتْ نفسَها للاضطلاع بها فى الحرب؛ عليها أن تتحلَّى بالسلوك ذاتِه على طريق الخروج من المأساة، والبحث عن أيَّة ثغرةٍ فى جدار النار تقود إلى السلام. والتجرُّد والعقلانيَّةُ هُنا يقضيان أن تُبادر إلى المُصالحة؛ لا أن تُناور فيها وتنفَلِتَ منها. أنْ تُقرّ بشرعية مُنظّمة التحرير وحجّيتها، وأن تدعوها لاستلام مسؤولية القطاع بموجب رمزيَّتها ومركزها القانونى؛ أقلّه لتقطعَ الطريق على الاحتلال فيما يخصُّ مساعيه للسيطرة العسكرية، أو تلفيق إدارةٍ دوليَّةٍ هَجينة، وأن تُصوِّب له سرديَّةَ «غياب الشريك» التى كانت مُحرِّكًا بارزًا لها، وطرفًا أصيلاً فى اصطناعها من العدم.
مُغالطةُ إسرائيل أنها تُحاول اختزال المشكلة فى الطوفان، والإيحاء بأنَّ الصراع انفجرَ مع هجمة حماس، وليس من الاحتلال وجرائمه المُمتدَّة لسبعة عقود. ومن أسفٍ؛ أنَّ الحركةَ تُمارس اللعبة نفسَها ولو بآليَّةٍ مُغايرة؛ إذ تجتهدُ للإيحاء بأنَّ المسألة محصورةٌ بكاملها فى المُواجهة الراهنة، وأنه يُمكن الرجوع إلى الأوضاع الطبيعية بمُجرَّد تسويتها فى إطارٍ جُزئىٍّ، وخارج البرواز الواسع للقضيَّة وتاريخها البعيد والقريب.
والحال؛ أنَّ الطوفان كان حصيلةَ ما يزيد على ثلاثين عامًا من تشغيب الحركة الإخوانية على النضال الوطنى، وفَصل نفسِها عن نهره الهادر، ابتداعًا لحكايةٍ تخصُّها دون طوابير الحركات والمُناضلين، منذ ما قبل قيام إسرائيل.
الحادث الآن ابنٌ شرعىٌّ للانقسام وانقلاب الحماسيِّين على السلطة بعد انتخابات 2006، واستقطاع غزَّة دُويلةً قائمةً بضآلتها واختزالها فى لونٍ واحد؛ وكما لم يَرِد على خيال العدوِّ نفسه. إنه حصيلةُ الانتفاخ على عين نتنياهو، والتضخُّم تحت رعايته، وعدم استشعار الحَرَج فى دعمِه المُباشر ومن قنواتٍ خلفيّة، والأخطر من كل هذا التعامى عن الفخِّ المنصوب عَلنًا، وتجاهُل مصلحة الاحتلال فى تعظيم حضورها، وافتراض أنها أذكى منه، أو أطهر من بقيَّة الشُّركاء المُنظّمين؛ بل ومن الشعب نفسِه الذى يُستَدعَى للموت قهرًا، ويُسلَب منه الحقُّ فى إبداء التململ أو المُجاهرة بالغضب.
الهُدنةُ آتيةٌ فى كلِّ الأحوال؛ لأنه لا حروبَ أبديَّة، ولا أملَ لإسرائيل فيما تتمنَّاه من إبادةٍ وتطهير. وعندما تتحقَّقُ فقَد تكون طويلةً نسبيًّا، أو مُجرَّد فاصلٍ بين قتالين. اعتادت فلسطين أن ترجع من الجبهة لتعود إليها، وفى كلِّ مرَّةٍ بضحايا أكثر وهزائم أشد وطأة.
الضمانةُ الوحيدة لكَسر الطوق الخانق، وتغيير نكهة الدراما، أن تقعَ القطيعةُ مع الطُّرق القديمة التى أفضَتْ لتكرار المآسى بحذافيرها.
من دون وفاقٍ وطنىٍّ، وقبل أن تتواضَع حماس لبيئتها؛ فلا سبيلَ للتغلُّب على سيناريوهات النازية الصهيونية المُعدَّة سَلفًا.
من قَبيل الملهاة وعظيم البؤس؛ أن تنخلِعَ القلوب كلَّما أُفسِدَت جولةُ تفاوضٍ، وأن تنخلِعَ أيضًا كلَّما لاح ضوءُ الاتفاق؛ كأنَّ الكدر والفزع والتوجُّسَ قَدَرٌ يُلازم الفلسطينيين فى كل الأحوال. ولا أرى خيرًا إن لم تتزامن مُداولات المصالحة مع سجالات التهدئة، وأن ينتظم مَسيرُ القطار على قضيبَيْن مُتوازيَيْن؛ لأنه لا يُمكن أن يصل إنْ تأخَّر إحداهما، ولا أن يُقلِعَ أصلاً إن غُيِّبَ الآخر. اعترافٌ فاعتذارٌ وتصويبٌ وانخراطٌ تحت خيمةٍ واحدة، أو الدوران فى حلقةٍ مُفرغة، والخروج من حفرةٍ إلى هاوية. وقاتلَ اللهُ الهَوَى دومًا، وتحت أىِّ شعارٍ أو ذريعة.