إذا توسعت الحرب لا بد من البحث في سيناريوهات التداعيات المحتملة على روسيا وبشكل طارئ
فجأة يبدو أن الحرب تطال العمق الروسي (سبوتنيك)
من شأن مراجعة للأشهر الماضية منذ بداية العدوان الروسي على الأراضي الأوكرانية أن تبرز سلسلة أحداث قد تصلح يوماً ما بأن تعتبر لحظة مفصلية، طبعاً مع الأخذ في الاعتبار النتائج التي أفضت إليها. فمن واقعة انسحاب قافلة العربات العسكرية المدرعة الروسية الضخمة التي كانت تهدد العاصمة كييف، إلى النهاية المبكرة لأي محادثات سلام بين الجانبين، إلى سيطرة روسيا على مدينة ماريوبول (بالتالي الطريق البرية نحو شبه جزيرة القرم)، وأخيراً النصر الذي تحقق للروس في مدينة باخموت، والتي من شأنها ربما فتح الطريق أمام القوات الروسية للسيطرة على مناطق إضافية في دونباس.
إلى كل تلك الوقائع لا بد أن نضيف الآن هجمات الطائرات المسيرة من دون طيار (الدرون) على ضواحي موسكو 30 مايو (أيار)، والتي يبدو أنها استهدفت إضافة إلى مناطق أخرى، ضاحية النخبة من أهل موسكو الذين يقطنون ضاحية روبليوفكا Rublyovka، حيث المباني [الفارهة] المخبأة، العائدة إلى طبقة النخبة المتنفذة من أبناء العاصمة. إن مكان إقامة الرئيس الروسي الرسمي لا يبعد كثيراً، على رغم أنه ليس في تلك المنطقة.
نفت كييف مسؤوليتها عن الهجمات على ضاحية روبليوفكا Rublyovka، كما كانت قد فعلت في السابق بعد هجمات طائرات الدرون على مبنى الكرملين في بداية الشهر الماضي، تماماً مثل نفيها المسؤولية عن تزايد أعداد الهجمات المحدودة في أقاليم مختلفة من روسيا، والقريبة من الحدود مع أوكرانيا، لكن هذه المرة جاء النفي بشكل مخفف أكثر.
مساعد للرئيس فولوديمير زيلينسكي قال فقط إن كييف لم يكن لديها دور “مباشر”. أضاف أنه لا بد من توقع مزيد من تلك الهجمات [مع استمرار الحرب]. من الصعب أن يصار إلى الاستنتاج أن ذلك لم يكن إلا نوعاً من الاعتراف – أو التباهي حتى – بعلاقة كييف بالمسألة. ومثل هذه الهجمات لا بد أنها تأتي لتعكس نهجاً محدداً من التفكير.
فجأة، يبدو أن الحرب قد بدأت في التأثير في قلب مركز القوة الروسية، وإن كان ذلك بشكل حتى الآن رمزي للغاية، بدلاً من الآثار المدمرة [المحتملة]. السؤال هو ما مدى تأثير ذلك المحتمل على روسيا ـ إن كان هناك من تأثير ـ إذا تعلق ذلك بحسابات أرفع المسؤولين الروس، أو تأثير ذلك في معنويات شريحة المؤيدين للرئيس الروسي. الواضح، هو أن جبهة جديدة من الحرب قد تم فتحها، ولكن السؤال هو إلى أي درجة سيكون ذلك مؤثراً؟ [في تطورات الحرب].
هناك نقطة لا بد من ملاحظتها حتى الآن وهي أن روسيا لم ترد من خلال الاستعجال بتوجيه ضربة كبيرة إلى كييف، وهو ما يشير إلى عدم جهوزية في الكرملين، أو أن ذلك يعكس مستوى الإحراج [الذي يشعر به المسؤولون الروس]، أو الاثنان معاً. الرئيس فلاديمير بوتين كان قد ندد بما سماه “الهجمات الإرهابية على أهداف مدنية”، لكن الغارات الجوية الروسية على أوكرانيا مستمرة بالوتيرة نفسها إلى حد كبير. إن رسالة بوتين كانت رسالة تهدف إلى طمأنة الروس بشكل أساسي، بأن قدرات البلاد في مجال الدفاع الجوي كانت وإلى حد ما فعالة، وهو لم يفرض الأحكام العرفية، كما كان يتوقع البعض.
وقد جاء الرد المسموم الحقيقي تحديداً من المسؤولين السياسيين الروس من الصف الثاني، ومن المعلقين الإعلاميين، والأبرز من بينهم هو نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، والرئيس السابق، ديميتري ميدفيديف. المسؤول الذي كان في يوم من الأيام الوجه اللطيف والمهذب للجيل الروسي الذي جاء بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، قد تحول إلى أحد أشد الغوغائيين المدافعين عن الحرب. بالمناسبة، لقد كان ميدفيديف هو المسؤول الروسي الذي قام بتوجيه التحذيرات بإمكانية تحول مسؤولين بريطانيين إلى أهداف روسية، بعد أن كان وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي James Cleverly، قد قال وكان محقاً في ذلك أن أوكرانيا تتصرف ضمن حيز حقوقها في إظهار قوتها في الداخل الروسي.
أما الرسالة المتلفزة الأكثر توحشاً، كانت قد جاءت من يفغيني بريغوجين Yevgeny Prigozhin، الذي نشر تسجيلاً له يضم انتقاداً لاذعاً على تطبيق “تيليغرام” في مواقع التواصل الاجتماعي، يتهم من خلاله روسيا بدلاً من أوكرانيا. بريغوجين، قائد قوات المرتزقة الروسية التابعة لمجموعة فاغنر ـ التي تنسب إلى نفسها الفضل في تحرير باخموت – وهو أيضاً صديق قديم جداً للرئيس بوتين، ألقى باللوم على مؤسسة الدفاع الروسية، والمسؤولين الذين “لا اتصال لهم مع الواقع” والذين يعيشون حياة مرفهة في ضاحية روبليوفكا Rublyovka، متسائلاً: “كيف يمكنكم السماح للطائرات المسيرة بالوصول إلى موسكو؟” ويضيف: “ماذا سيفعل المواطنون الروس العاديون عندما تصطدم طائرات مسيرة محملة بالمتفجرات بنوافذهم؟”.
من خلال كلامه هذا، لقد عكس بريغوجين ما كان قد جاء في حديث غاضب أدلى به قبل أسبوع والذي توقع من خلاله قيام ثورة في روسيا، لو تركت طبقة النخبة للطبقة الفقيرة عبء القتال في هذه الحرب. وقال في حينه: “عمليات تقسيم المجتمع هذه يمكنها أن تنتهي كما انتهت الأمور عام 1917، أي بالثورة على النظام… إن الأبناء المرفهين لطبقة النخبة قد ينتهون معلقين على “مذراة أو شاعوب” pitchfork، عامة الشعب”.
غضب بريغوجين، ودفاعه عن الشرائح الأقل حظوة في المجتمع، وتمتعه الظاهر بغياب أي نوع من المحاسبة على ما ينطق به من آراء، قد أثارت كل أنواع التكهنات، حول إذا ما كان يتم استخدامه كدرع يقي الرئيس بوتين ويبعد عنه الانتقادات، أم أن الكرملين يفتقر إلى القوة للسيطرة عليه ودفعه إلى الانضباط، أو حتى الحديث عن إمكانية وجود نزاع على السلطة في الكرملين، والذي لطالما توقع حدوثه البعض، وهو ربما قد بدأ في الأصل. أنا شخصياً أشك بأن بريغوجين هو ذلك النوع من اللاعبين السياسيين، ولكن كلما أكثر من إعرابه العلني عن استيائه من شكل إدارة الحرب، كان من الأصعب فهم ما يصبو إليه من خلال تصريحاته.
لكن، رد فعل آخر على هجمات الدرون قد جاء أيضاً (وبجزء منه) من قبل أنصار بوتين من المواطنين. فبدلاً من إعرابهم عن خوفهم – على رغم أنه كان هناك بعض من الخوف – من المقابلات التي تجري في الشارع، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، كشفت عن حجم هائل من التشكيك في الرواية الرسمية لتطور الأمور. هل كان إجمالي عدد الطائرات المسيرة ثماني فقط؟ وهل وقع جريحان جراء الهجوم فقط، وبعض الأضرار المادية، بحسب ما قاله عمدة مدينة موسكو؟ إن الميل إلى التشكيك بتلك التوضيحات يفترض أن الروس كانوا أقل من مقتنعين [بما سمعوه من القيادة].
إذا قمنا بجمع كل تلك التفاصيل معاً، ما سنحصل عليه، أو ما قد نحصل عليه، هو خليط من التقلبات. هناك رئيس يفضل أن يبقى متحفظاً، ولا نعرف من ماذا يخاف، ربما؟ رد شامل وموسع من حلف الأطلسي؟ هناك مسؤولون كبار روس يبدون أكثر رغبة في استخدام قوة نارية أكبر ضد أوكرانيا وحلفائها. وهناك شخص عدواني، كلف نفسه أن يكون مسؤولاً مع جيشه الخاص، الذي يبدو مصطفاً إلى جانب الفقراء، ثم هناك الشعب، والذي يبدو غير واثق إلى حد كبير بكل ما يقال له.
كما هو معروف أيضاً من خلال التوغل الذي دام لفترة وجيزة داخل الأراضي الروسية في منطقة بيلغورود Belgorod، فهناك مجموعات من الميليشيات المنظمة تحت أعلام قومية روسية متنوعة، وتقوم بعمليات انطلاقاً من الأراضي الأوكرانية. ويمكن أن يكونوا من الروس، أو أوكرانيين في الأساس، ولكنهم يتمتعون بملاذات آمنة ينطلقون منها لتنفيذ عمليات عبر الحدود، على طريقة المتمردين وأسلوبهم المعروف منذ القدم.
هل هناك إمكانية ربما ولو في حدها الأدنى أن تنجح تلك المجموعات تدريجاً في أن تصبح مدعومة من قبل الشعب الروسي المستاء، بعد أن تعطلت حياتهم بسبب حرب لا تعترف بها الصفوة في البلاد في أعلى هرم السلطة، وأن ينجحوا في تجميع المتطوعين من أجل السير نحو موسكو؟ وإن لم يكن الهدف الوصول إلى موسكو، ربما يكتفون بالوصول إلى بعض مدن العواصم الإقليمية على الطريق؟
بالنسبة إليَّ تبدو تلك إمكانية ضعيفة، حالياً، وحتى على المدى القريب. فروسيا لديها كل مظاهر الاستقرار، وليس هناك أي تعبير علني عن حال التمرد، والمعارضون للحرب قد تم السماح لهم بمغادرة البلاد إلى الخارج. يبدو الرئيس بوتين محافظاً على دعم أنصاره، وروسيا ليست وعلى عكس ما تتمناه الدول الغربية، معزولة دولياً. فمستوى المعيشة لم يتأثر على رغم العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، كما أن الإصابات [في صفوف الجنود الروس] لم تتحول إلى قضية سياسية مشابهة لما جرى إبان الحرب الأفغانية في حقبة الاتحاد السوفياتي.
لقد شكلت عودة أولئك المحاربين من أفغانستان من دون الاعتراف بتضحياتهم، وبعد أن تحولوا إلى فقراء ومتضررين، في بلد يفقد أبناءه الثقة بالنظام القائم وزعمائه، عاملاً من عوامل انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. وكان ذلك مشابهاً أيضاً للفشل العسكري في إطاحة القيصر الذي أدى إلى تأجيج الثورة البلشفية.
وكما قلت سابقاً، نحن لم نصل بعد إلى تلك المرحلة التي ما زالت بعيدة نوعاً ما. ولكن، مثلما ثمة حاجة إلى تقييم الأخطار، النووية وغيرها، ثمة ضرورة للنظر في السيناريوهات المحتملة لتداعيات الحرب على روسيا إذا توسعت دائرتها، بغض النظر عن بعد مثل تلك الاحتمالات حالياً.
© The Independent