كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته “أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله”، “الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق”.
سارعت فرنسا إلى إرسال وزير خارجيتها، جان نويل بارو، إلى دمشق، في إشارة أولى إلى قبولها التغير في سورية، وبما يتسق مع وقوفها ضد ممارسات نظام الأسد البائد، ودعمها تطلعات الشعب السوري. ثم بادر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تأكيد رغبة بلاده في أن تلعب دوراً بارزاً في التحوّل السوري، حيث بادر إلى الاتصال بالرئيس السوري أحمد الشرع، وهنأه بتوليه قيادة المرحلة الانتقالية، ووجه له دعوة إلى زيارة فرنسا، الأمر الذي أكّد مضيّ فرنسا في دعمها الكامل المرحلة الانتقالية في سورية، وبذلها جهوداً لرفع الاتحاد الأوروبي العقوبات الاقتصادية عنها، وبما يفتح الطريق أمام التعافي وإعادة ما دمره نظام الأسد.
تكلل الدور الفرنسي الجديد برعاية ماكرون مؤتمر باريس حول سورية، الذي تمكن من حشد دعم كبير، تجسد في حضور وزراء خارجية وممثلين عن 20 دولة، إلى جانب ممثلين عن الاتحاد الأوروبي، والمبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون، والأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم البديوي. وقد نجح المؤتمر في الحصول على تعهد دولي بدعم الانتقال السياسي في سورية، وتأكيد الوفود المشاركة “اعترافها بالحكومة الانتقالية السورية ودعمها في التزامها حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية لجميع السوريين”. إضافة إلى تعهد المشاركين في المؤتمر بدعم آليات الحوار الشامل بين السوريين التي أعلنت إطلاقها الإدارة السورية، وصولاً إلى إعلان دستوري يحدد شكل الدولة ونظامها السياسي، ويمهد لإجراء انتخابات حرّة ونزيهة في سورية. والأهم تأكيدهم دعم الاحتياجات العاجلة لعملية الانتقال السلمي الذي يحترم سيادة سورية وأمنها، ومعالجة قضايا العدالة وتعزيز مكافحة الإفلات من العقاب.
محاربة الإرهاب ودمج الأكراد في العملية السياسية الانتقالية، من أهم أولويات السياسية الفرنسية
يبدو أن فرنسا تسعى من خلال حراكها السياسي النشيط حيال سورية لرغبتها في لعب دور فاعل في إعادة تشكيل ملامح التغيير الحاصل فيها بعد الخلاص من نير نظام الأسد الاستبدادي، وبما يعكس محاولتها انتزاع هذا الدور في ظل محاولة لاعبين دوليين وإقليميين تثبيت حضورهم في المشهد السوري الجديد، حيث جذب التغير الجديد في سورية لاعبين كثراً تقاطرت وفودهم إلى دمشق منذ إسقاط نظام الأسد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. ولعل محدّدات الدور الفرنسي الجديد في سورية، تكمن خلفها دوافع عديدة، منها ما يتعلق بسعي الساسة الفرنسيين لإعادة تقوية حضورهم في السياسة العالمية، خصوصاً بعد خفوت في دورها وحراكها في دول منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، إضافة إلى مسألة مكافحة الإرهاب وما يتصل بها بمصير معتقلي داعش الفرنسيين وعوائلهم في سجون تشرف على حراستها قوات سوريا الديمقراطية في مناطق شرق الفرات، وملف اللاجئين السوريين في فرنسا وأوروبا عموماً، وصولاً إلى مسألة إعادة الإعمار وارتباطها بنجاح عملية الانتقال السياسي في سورية، وعلاقة ذلك كله بالعلاقات الفرنسية في المنطقة وتأثيرها في المشهد السوري الجديد.
الواقع أن الخطوات التي اتخذتها الإدارة الجديدة في سورية هي التي شجعت قوى دولية وإقليمية على إرسال وفودها التي تقاطرت بغزارة إلى دمشق، وأفضت إلى إخراج البلاد من عزلتها الدولية والعربية، والحصول على دعم قوي لعملية الانتقال السياسي التي ينتظرها السوريون قبل غيرهم، وقد حددها الرئيس أحمد الشرع في عدة خطوات، تجسدت أولاها بإعلان تشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، حظيت بقبول واسع من السوريين، وضمت سيدتين من المجتمع المدني، في إشارة إلى مراعاة ما تطالب به الوفود الغربية حول مشاركة المرأة. إضافة إلى أن بداية الشهر المقبل (مارس/ آذار) ستشهد إعلان حكومة انتقالية، تراعي التنوع المجتمعي، والأمل معقود على أن تكون حكومة تمثيلية، وبما يزيد من طمأنة السوريين والقوى الدولية.
المشكلة أن فرنسا، ومعها دول الغرب، دعمت التحول في سورية، لكنها، في الوقت نفسه، لا تزال تدعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تستقوي بهذا الدعم
غير أن تركيز الرئيس الفرنسي على ضرورة انخراط سورية في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، وعلى ضرورة دمج حلفائه في قوات سوريا الديمقراطية في العملية الانتقالية، أظهر أن محاربة الإرهاب ودمج الأكراد في العملية السياسية الانتقالية، من أهم أولويات السياسية الفرنسية، لذلك لا يزال ساستها يصرّون على ضرورة وفاء حكام سورية الجدد بوعودهم حول انخراطهم بمكافحة الإرهاب وسعيهم لعملية انتقال شامل لكل مكونات الشعب السوري، فضلاً عن أن المسؤولين الفرنسيين لا يخفون مطالبهم بضرورة بقاء سورية بعيدة عن نفوذ النظامين الروسي والإيراني، وهو ما ذهب إليه إيمانويل ماكرون حين دعا الإدارة السورية الجديدة إلى “التعاون مع التحالف الدولي لمحاربة داعش ومنع سورية من أن تتحول مرة أخرى منصة للمليشيات الإيرانية لزعزعة استقرار المنطقة”. ولا شك في أنه يقصد منع وصول الأسلحة إلى حزب الله اللبناني، منعاً لأي تهديد لأمن إسرائيل، لكنه صمت عن الاعتداءات والتوغلات الإسرائيلية في الأراضي السورية واحتلالها المنطقة العازلة على الحدود.
المشكلة أن فرنسا، ومعها دول الغرب، دعمت التحول في سورية، لكنها، في الوقت نفسه، لا تزال تدعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تستقوي بهذا الدعم، وترفض الاندماج إلا ككتلة صلبة موحدة في الجيش السوري الجديد، وبما يمنح إدارة المناطق التي تسيطر عليها في شرق الفرات خصوصية وتفرّداً ضمن الجسم السوري الجديد. وهو أمر ترفضه السلطات الجديدة، وإن كان الحاكمون الجدد في سورية قد استطاعوا انتزاع تأييد واعتراف أجنبيين واسعين، إلى جانب احتضان عربي خليجي غير مشروط، الأمر الذي منح النظام الجديد نوعاً من الشرعية الخارجية، إلا أن هذا النظام لا يزال تحت المراقبة، ومطالب بتنفيذ شروط عديدة، حيث لم يحصل إلا على وعود برفع مشروط للعقوبات المفروضة على سورية، التي تشكل أكبر عقبة أمام تعافي البلاد وتحسين شروط عيش السوريين، فضلاً عن ملايين اللاجئين السوريين الذين ينتظرون توفير بيئة ملائمة لعودتهم إلى بلادهم، ولا تمتلك السلطات الجديد القدرة على تقديم الخدمات والاحتياجات الضرورية، خصوصاً أن نسبة الفقر تجاوزت 90% بين السوريين.