تأكيدات من سياسيين بأن هناك نية مبيتة لضباط كبار في الجيش منتمون للجماعة وهم من نزعوا فتيل المعارك
محمد جميل أحمد كاتب صحافي من السودان
دخان يتصاعد خلف مبان قرب منطقة المطار في الخرطوم (أ ف ب)
وأخيراً حدث ما حدث ووقعت الحرب التي طالما حذرت منها هنا في أكثر من مقالة، ووقعت الحرب وفي تقديري أن الأمور كانت تتجه إلى سيناريو العنف السياسي بحسب المعطيات التي كشف عنها واقع سياسي سوريالي كان من الضرورة بمكان أن تفضي تداعياته وانسداداته إلى تلك الحرب.
فمن ناحية كان واضحاً أن الفساد الذي تخلق وتراكم في بنية الدولة السودانية جراء أخطاء بنيوية منذ الاستقلال قد بدت تطبيقات الإسلام السياسي لنظام الإخوان المسلمين حلقته السرطانية الأخيرة على النحو الذي نراه اليوم في حرب هي الثمرة المسمومة لتخريب الجيش الوطني على مدى 30 عاماً، ليبدو صراع الجيش والدعم السريع الذي يتطور اليوم بوتيرة متسارعة معركة تكسير عظام لا نجاة منها، وهو فساد سيتعذر علينا إدراك طبيعته المميتة إذا لم نستوعب أن الخلاص من نظام إخواني كالذي عرفه السودان 30 عاماً لا يمكن إلا بشق الأنفس.
ومن ناحية ثانية ينهض عجز القوى السياسية السودانية وامتناعها الذي فصلنا القول في طبيعته ليضعنا اليوم أكثر من أي وقت مضى أمام دروس قاسية ومكلفة للضريبة التي سيتعين على القوى السياسية دفعها جراء غياب وعي وطني تكشف عواره في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ العنف السياسي، لتضع الجميع أمام هول المأساة.
ومن ناحية ثالثة يمكن القول إنه بالنظر إلى ما يجري من عنف سياسي مميت في مدينة الخرطوم منذ يوم السبت الـ 15 من أبريل (نيسان) 2023 على خلفية نزاع عسكري على السلطة تحتم وقوعه بين الجيش والدعم السريع، فإنه لا يزال ثمة إمكان للخروج من دوامة حرب نقدر أنها دُبرت من طرف ضباط كبار من الإخوان في الجيش لتكون مغامرتهم الخطرة والأخيرة.
العنف السياسي
هكذا يحدث العنف السياسي في الخرطوم لمرة ثالثة كخاتمة أخيرة لأطوار عنف مديد عانته الدولة السودانية منذ الاستقلال عبر حروب أهلية في الجنوب والغرب والشرق. وإن كان العنف السياسي هذه المرة مختلفاً اختلافاً نوعياً عن المرتين السابقتين اللتين كانتا غزواً لمعارضة سودانية مسلحة للخرطوم من الخارج، أي غزو الجبهة الوطنية للخرطوم عام 1976 ضد نظام نميري وغزو حركة العدل والمساواة بقيادة خليل إبراهيم للخرطوم في عام 2008 ضد نظام البشير، فهذه الحرب التي تجري اليوم بين الجيش والدعم السريع في الخرطوم هي خلاصة لخراب ضرب بنية الدولة السودانية بعطل كمن في مركزها الذي كان باستمرار يبدو في منأى من تاريخ عنف الأطراف الذي كانت تفجره سياسات ذلك المركز، فالخراب الذي ضرب بنية الجيش السوداني جراء الرؤية الانقسامية المفسدة في أيديولوجيا الإسلام السياسي وصلت تداعياته حدها الأقصى من انفجار التناقضات، إذ فجأة تكشفت خطورة الأدلجة والتسييس والانقسام الذي أحدثه الإخوان المسلمون خلال 30 عاماً داخل الجيش عن تكوين الجسم (الدعم السريع) الذي كان في حقيقته جسماً عسكرياً موازياً للجيش، وكان من الواضح أنه عاجلاً أو آجلاً ستنفجر التناقضات بينهما.
وهكذا كان ظاهر الاختلاف في مواقيت عملية الإصلاح الأمني والعسكري بين الجيش والدعم السريع ضمن بنود الاتفاق الإطاري القشة التي قصمت ظهر البعير، لكن في تقديري أن الخلاف يكمن في ما هو أبعد من ذلك، أي في التحول الكبير الذي طرأ لقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي” عام 2022 إثر الزيارة/ الخطيئة التي قام بها إلى موسكو في الـ 24 من فبراير (شباط) 2022، أي في يوم اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية، وهي حرب بدت واضحة اليوم انعكاساتها الجيوسياسية على شكل وطبيعة التحولات في سياسات المحاور الدولية وضغوطها، مما يدلنا بوضوح على أن ثمن الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على حميدتي أثمرت تسوية في ذلك التحول الذي طرأ عليه، وكان من علاماته قبوله بدمج قواته في الجيش، إذ هذا محرماً من محرمات الدعم السريع، وكذلك قبوله الخروج من العملية السياسية وفرض الأمن في دارفور.
كان هذا التحول هو أساس مفترق الطرق الذي بدت أقصى تناقضاته العنيفة اليوم في هذه الحرب بين حميدتي وقادة كبار من الإخوان يسيطرون على الجيش اضطروا إلى مسايرة الضغوط الأميركية التي مارستها المبعوثة الأميركية للقرن الأفريقي مولي صيف العام الماضي.
وهكذا من خلال ما ذكرت آنفاً سيتضح تماماً أن خلاف مواقيت الدمج في عملية الإصلاح الأمني والعسكري بين البرهان وحميدتي كانت عرضاً للمرض، فيما المرض هو افتراق خطى حميدتي تحت ضغوط دولية جبارة عن خط قادة الجيش من الإخوان الذين ظلوا يضمرون عرقلة الانتقال المدني والتحول الديمقراطي للثورة السودانية بهدف الاحتفاظ بالسلطة.
تبييت نية الحرب
فبحسب معلومات ذكرها بعض السياسيين كان واضحاً أن ثمة نية مبيتة لضباط كبار من الإخوان في الجيش ظلوا يضغطون على قائده الفريق عبدالفتاح البرهان لإشعال هذه الحرب، وبحسب ما روى القيادي البارز في قوى الحرية والتغيير طه عثمان فإنه في اليوم الذي اشتعلت فيه الحرب فجر السبت الـ 15 من أبريل الجاري كان هناك اجتماع مهم انتهى في الساعة الثالثة من فجر ذلك اليوم بين كل من البرهان وحميدتي مع الرباعية والثلاثية والأحزاب الموقعة على الاتفاق الإطاري، وانتهى الاجتماع بالاتفاق على تكوين لجنة لخفض التوتر بين الجيش والدعم السريع برئاسة الدكتور الهادي إدريس وعضوية الفريق خالد عابدين ممثلاً للقوات المسلحة واللواء عثمان ممثلاً للدعم السريع، لتتلقى الرباعية والأطراف التي كانت في ذلك الاجتماع بعد ساعة من انفضاضه، أي في الرابعة صباحاً، إخطاراً من قيادة الدعم السريع في معسكر منطقة سوبا بأن قوة من الجيش تحاصر معسكرهم ومعسكرات أخرى للدعم السريع محاصرة من طرف الجيش، وتندلع الحرب بعد ذلك في الساعة التاسعة صباحاً، أي بعد ست ساعات من اجتماع البرهان وحميدتي والرباعية واتفاقهما على خفض التوتر.
واليوم وفيما تدخل الحرب يومها الخامس فثمة علامات أساس ربما تكون سبباً في إمكان احتوائها في الوقت المناسب، فهذه الحرب حتى الآن تعتبر حرباً بين قوتين، قوة عسكرية (الجيش) وقوة شبه عسكرية (الدعم السريع) عكس التحالف الذي كان بينهما بالأمس اختلافاً بيناً عن سياقات أخرى للحرب في المنطقة، مثل الحرب في اليمن بين الحكومة اليمنية والحوثيين، مما سيعني أن الطبيعة النظامية للقوتين قابلة لأن تستجيب للضغوط الدولية خصوصاً من طرف الآلية الرباعية الدولية التي تضم أميركا وبريطانيا والسعودية والإمارات باتجاه التهدئة، كما أن عزوف الشعب السوداني عن التفاعل مع هذه الحرب التي ربما توهم طرف فيها تعاطف الشعب معه، يمنع حتى الآن، لكن موقتاً، إمكان تحولها إلى حرب أهلية شاملة، إلى جانب حياد خمس حركات مسلحة حتى الآن، فإذا أضفنا إلى تلك العلامات الطبيعة الجيوسياسية للسودان والصراع الذي يدور في المنطقة بين روسيا والولايات المتحدة، وهي طبيعة تفرض على القوى الدولية الكبرى الحرص على عدم انهيار الدولة المركزية في السودان في هذه المنطقة، فإننا سنكون بإزاء إمكان احتواء هذه الحرب إذا لم تستمر طويلاً في بلد بالغ الهشاشة مثل السودان، ويعاني أزمات وانقسامات إثنية وجهوية في الصراع على السلطة، ولهذا فإن السباق مع الزمن هو الفيصل في احتواء هذا العنف.
السياق الذي يؤطره الاستقطاب في بروباغندا العنف السياسي الذي يجري اليوم على هامش الحرب بين الجيش والدعم السريع في السودان، فيما يتردد بين افتراض انطباعي أولي لدى بسطاء المواطنين من حيث ولائهم لجيش البلاد بطريقة تلقائية، وهو انطباع يستثمره الجيش اليوم لكسب عاطفة المواطنين إلى صفوفه، وبين انطباعات مشوشة وسالبة عن قوات الدعم السريع في سياق يعكس في الوقت ذاته دلالات أخرى واضحة ومغايرة نراها من خلال اصطفاف كل رموز وأنصار نظام البشير (الإخوان المسلمين) ومحازبيهم إلى الجيش في هذه الحرب.
وحيال استقطاب كهذا يلتبس على كثيرين بين صورة انطباعية سلبية للمواطنين عن قوات الدعم السريع وصورة انطباعية مثالية عن الجيش، سيبدو جلياً هنا أن الأمر اليوم على التحقيق لا يعكس حقيقة واضحة حيال أي من الطرفين، فالجيش الذي بدا واضحاً اليوم أنه جيش على رأسه ضباط كبار من الإخوان يريدون حرق الوطن من أجل السلطة والعودة للحكم، ليس هو بطبيعة الحال الجيش كنظام وكجنود، لكن في الوقت نفسه إذا استصحبنا تاريخاً دام 30 عاماً من الإفساد الذي مارسه نظام البشير في هذا الجيش الذي تتربع على رأسه اليوم قيادات إخوانية لا تملك ضميراً وطنياً ولا بوصلة أخلاقية، فإننا نجد أنفسنا أمام تشويش قد يبدو لكثيرين في هذه اللحظة التاريخية الفارقة أمراً طبيعياً في مناصرتهم للجيش من دون أن يدركوا من سياق المجريات الغريبة للحرب أن قادة كثيرين في الجيش لم يكونوا يعلمون ساعة الصفر، إذ لم يلاحظ المواطنون خلال الأيام السابقة للحرب رفعاً لدرجة الاستعداد إلى 100 في المئة من طرف الجيش، كما أن وقوع أكثر من 140 ضابطاً كبيراً في الجيش برتبة فريق ولواء وعميد أسرى على يد قوات الدعم السريع خلال اليومين الأولين من الحرب ربما يؤشر إلى علامات استفهام كثيرة حيال معرفة كثيرين من ضباط الجيش بساعة الصفر.