أنا متفائل رغم أن الحل ليس سحرياً بل يتطلب مزيداً من المقاومات الثقافية والأخلاقية
لقد أخفق السياسي في إدارة الشأن العام وأخفق المثقف في إدارة المتون الفكرية إخفاقاً مزدوجاً (أ ف ب)
بعد كل هذا الخراب، هل أصبح المجتمع العربي والمغاربي ملقحاً ضد الإسلام السياسي؟
هل أضحى الإسلام السياسي أثراً بعد عين، بعد مرارة المحنة السياسية والاجتماعية والسيكولوجية التي عاشتها الشعوب العربية في الربع الأخير من القرن الماضي، القرن الـ20؟
هل انتهى المجتمع العربي والمغاربي فعلاً من جمع أشلاء آخر ضحاياه من حروب الإسلام السياسي العنيفة؟
هل دخلت مجتمعاتنا فعلاً في مرحلة المناعة الجماعية والنقاهة من مرض الإسلام السياسي؟
هل ستعود الحياة الاجتماعية إلى طبيعتها الإنسانية، بكل ما تحمله من تنوع واختلاف وأحلام وأفراح، وهذا حق وحلم المواطن في هذه البلدان الإسلامية الذي عانى طويلاً فقدان الحرية والحق في الحياة وفي الإبداع والرأي؟
هل ستختفي ثقافة العداوة المنتشرة ضد فكرة المساواة بين الرجل والمرأة؟ وهل ستختفي أيضاً ثقافة الكراهية ضد الآخر المختلف مسلماً كان أم مسيحياً أم يهودياً أم شيوعياً أم علمانياً أم ملحداً ليتساوى الجميع أمام سلطة “المواطنة” التي لا سلطة فوقها؟
طرح هذا السؤال المعقد والمركب ليس من باب التجريح في الذات والتلذذ بمآسيها، لكنه موقف التأمل والتقليب.
طرح السؤال هذا ليس من باب الحفر في الجرح الغائر إنما لقراءته وتأويله.
كان الربع الأخير من القرن الـ20 جحيماً على العالم العربي والمغاربي، فبعد جحيم الاستعمارات السياسية التقليدية الغربية التي هيمنت على المنطقة منذ القرن الـ19 وحتى منتصف القرن الـ20 وانتهت باستقلالات وطنية قلقة ومهتزة بيافطات مختلفة عسكرية واشتراكية وقومية ووطنية، استقلالات لم تتمكن من تحقيق أحلام المواطن في الحرية والديمقراطية والخبز والعمل والكرامة.
بعد جحيم الاستعمارات الغربية وإخفاق الأنظمة الوطنية والقومية، دخل المواطن في جحيم تجربة الإسلام السياسي الذي نتج منه قتل الأب لابنه، والابن لأبيه، والأخ لأخيه، والابن لأمه وأخته في ظل توحش أيديولوجي، كل شيء تفكك من الأسرة إلى المؤسسة الاقتصادية إلى البنى الاجتماعية إلى البنى النفسية، كل ذلك كان يحدث تحت ضربات الفتاوى المستثمرة في تراث لم تستطع طبقة الفهماء (الإنتيليجانسيا) قراءته قراءة صحيحة وتفكيك ألغامه الكثيرة التي لا تزال حتى الآن تنفجر بين الحين والآخر في وجوه الشباب الحالم بعيش جميل وإنساني.
لقد أخفق السياسي في إدارة الشأن العام وأخفق المثقف في إدارة المتون الفكرية، إخفاقاً مزدوجاً.
الآن ونحن نتأمل المشهد السياسي والاجتماعي والنفسي والثقافي في العالم العربي وبلدان الشمال الأفريقي نشعر بشيء مركزي هو نهاية أسطورة “أنبياء” الإسلام السياسي، لقد ولى عهد “القائد الإسلاموي” الذي يشبه الأنبياء والرسل، ومع اختفاء هذا “النبي” اختفت فكرة “الفتوحات” و”الغزو” التي لطالما ملأت رؤوس العامة من المؤمنين البسطاء.
وبنهاية “النبي الإسلاموي” تراجع بل تقزم تأثير الأحزاب السياسية الإسلامية في المشرق كما في البلدان المغاربية، وتحولت إلى أحزاب تتهافت على السلطة شأنها شأن الأحزاب الأخرى، فاقدة بذلك البعد “الإلهي” السماوي الذي كانت تتمتع به والذي به تفرض هيمنتها على المؤمن/ المواطن البسيط.
صحيح لقد تركت هذه الأحزاب الإسلامية التي هيمنت لمدة ثلاثة عقود على المدرسة والجامعة بشكل واضح وفاضح أثراً على جيلين متتاليين لا يمكنه أن يزول بسرعة فقد تشكل مخيال إسلاموي يتطلب انتفاؤه وقتاً أطول.
حين نتأمل المشهد السياسي والأيديولوجي والثقافي والاجتماعي من الرياض مروراً بدمشق فالقاهرة فالخرطوم فتونس فالجزائر والرباط نشعر بأن قوى الإسلام السياسي ترمي بآخر مفرقعاتها الأيديولوجية.
هذا التفاؤل الفلسفي والسياسي والاجتماعي ناجم عن النتائج التي خلفها الزلزال الإسلاموي الذي ضرب العالم العربي وبلدان شمال أفريقيا على الفرد والجماعة والمؤسسة.
الآن، هناك أصوات كثيرة أصبحت تعبر عن حالها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر المنصات المفتوحة للنقاش الحر قائلة، لقد شبعنا قتلاً في بعضنا بعضاً وبقينا في آخر الصف من البشر. لقد أكلنا لحم بعضنا بعضاً حياً وميتاً، ليس بالمعنى الرمزي، لكن بالمعنى الحقيقي والمباشر للأكل. لقد شبعنا حتى التخمة شعارات سمينة وظللنا فقراء نحافاً.
لقد حفظنا مئات بل آلاف الخطب عن الفتح والغزو ضد الكافر الأوروبي وغلقنا باب الجنة في وجوههم وأخرجناهم من ملة “الإنسان” وها هي جحافل أبنائنا وبناتنا من كل الأعمار ومن كل أرض الإسلام تهرب من أوطانها التي ما عادت أوطاناً، تهاجر على قوارب الموت في اتجاه بلدان هؤلاء الكفار الذين أشبعناهم سباً وتكفيراً، يلجأون إليهم لطلب اللقمة والأمن والحق في الحياة.
لقد شبعنا كلاماً كثيراً في الشعر وفي خطب الفقهاء وخطب السياسيين وأساتذة الجامعة ومقالات الصحافيين، كل ذلك ببلاغة عالية لكن هذا كله لا يملأ البطن الجائع ولا الفكر المتقد ولا الحلم اليقظ؟
لقد اعتصم المؤمن بالإسلام السياسي طويلاً، لأكثر من ربع قرن، نكاية في العسكر أو في القمع باسم الاشتراكية أو باسم القومية أو باسم الشرعية الثورية، اعتصم بهذا الوهم هروباً من الوهم الآخر عله يذوق الجنة الموعودة على الأرض فلم ير منها شيئاً، بل غرق في الدم والخوف والفقر والأمراض الجسمانية والنفسية أكثر فأكثر.
لقد وصلنا إلى القاع، لمسنا الحضيض، أصبحت قلوبنا فارغة وشوارعنا وسخة ومدننا أحياء عشوائية لا تخضع لأي مسطرة عمرانية لا غربية ولا شرقية؟
هذا ليس خطاب التيئيس لكنه الحقيقة التي تصفعنا كل يوم من الرصيف إلى الجامعة إلى نشرة الأخبار.
أنا متأكد أن المسلم العربي والمغاربي البسيط، المؤمن بربه وبدينه الحنيف قد مل، قد تعب، قد يئس من تلطيخ صورة الدين بقضايا الصراعات السياسية والدنيوية، قد كره هذا الواقع الذي يعيشه تحت رعب أيديولوجي متستر بأخلاق كاذبة وبأحلام لا تتحقق، لقد أصبح مركوباً لقوى سياسية تمر من على ظهره للثروة والمتع وهو يتفرج على الرصيف أو على سجادة صلاة الفجر، وأمام هذه الحصيلة السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية السيكولوجية فقد أصبح يبحث عن طريق خلاص آخر، هو يدرك بأن الحياة لا تعاش مرتين.
لقد انزاحت عقدة الخوف التي كانت مسلطة عليه باسم “النبي” الإسلاموي. كل هذا الواقع بمره ومراراته وخيباته وأتعابه وانكساراته هو درس تاريخي فردي وجماعي دفع المواطن العربي والمغاربي إلى منطقة الحصانة، منطقة الكائن الملقح ضد أي استثمار سياسوي إسلاموي.
أنا متفائل على رغم أن الحل ليس سحرياً بل يتطلب مزيداً من المقاومات الثقافية والأخلاقية من النخب السياسية والثقافية والفكرية والإبداعية الصادقة.
ولعل انفجار وسائل التواصل الاجتماعي عرى بؤس كثير من الرأسمال الثقافي والسياسي الذي كان بالأمس يدخل في باب “المقدس”، وكشف أيضاً طبيعة كثير من الدعاة الذين كانوا قبل سنوات يصنفون في خانة الرسل والأنبياء، وكيف تحولوا إلى أقزام أمام سادة جدد، كيف تبدل خطابهم وأصبحوا أرانب بعد أن كانوا يلبسون جلود الأسود؟
كل هذا المشهد كان درساً كبيراً للمواطن والمؤمن البسيط، كان درساً وطريقاً لبداية تحرره، واسترجاع حريته ولسانه وكرامته. لقد أصبح المجتمع في منطقة جديدة ومكشوفة، أصبح الجميع عراة، كل على حقيقته الدجال والمناضل والمنافق والعميل والنزيه والخائف والجريء.
لكن إذا كان المجتمع العربي والمغاربي قد دخل في منطقة النقاهة من مرض الإسلام السياسي الذي عاناه وبشكل مباشر لثلاثة عقود، فإن خطراً يظل قائماً يطل علينا من أفق جغرافي وحضاري آخر، هذا الخطر آت من الجاليات الإسلامية التي تعيش في البلدان الأوروبية والتي تريد أن تطبق الشريعة التي هربت منها في بلدانها، تطبقها على المجتمعات الأوروبية المتعددة التي التجأت إليها هروباً من العسف والموت وخنق الحريات.
أمام هذا الوضع نتساءل، فهل سيعيش المجتمع العربي والمغاربي دورة أخرى من الإسلام السياسي، ليس الآتي من السلفية المشرقية المتشددة، لكن من سلفية باريس ولندن وبرلين؟