بين عملية «طوفان الأقصى» ويومنا الراهن، أنجزت بيئات متعاطفة مع «الطوفان» انتقالاً ملحوظاً: فبدل نبرة هجومية وانتصارية تؤكّد على «التحرير» و«النصر»، حلّت نبرة دفاعية مُتَدروِشة مفادها أنه «يستحيل السلام مع إسرائيل». والقاسم المشترك بين النبرتين استبعاد السلام، وإمكانية السلام، في كلّ حين.
ومن دون أوهام، بات السلام في المنطقة صعباً جداً. وبعض صعوبته التأسيسية، إذا صحّ التعبير، تلك الهستيريا الأمنية في الدولة العبريّة، وهي النابعة جزئياً من تجربة المحرقة، وجزئياً من الشعور بالاستفراد الأقلّي في عالم عربي وإسلامي واسع. وعنصر كهذا إنما يزكّي الخيارات السياسية الأسوأ، فإسرائيل، بسبب جنوحها الأمني المَرَضيّ، مصابة بعقدة الأمن المطلق، وكلّ «مطلق» مانع للاندراج في «مغامرات» سلام لا تبدو مضمونة سلفاً، فيما كلُّ سلام بين طرفين متعاديين ينطوي على مغامرة. والحال أن تلك الخلفية إياها مصدر لتعصب صاحبها وربما لاقتناعه بـ«ضرورة» الإمعان في إضعاف الآخر بما يقيه كل شرّ قد يصدر لاحقاً عن هذا الآخر.
وكان لشعار «تحرير فلسطين» التاريخي أن وفّر المدد لتلك الهستيريا الإسرائيلية. فالشعار المذكور كفيل، لو كُتبت له الحياة، بإنجاز إبادة من صنف هيولي. على أن الشعار هذا وجد استئنافه في «الطوفان» نفسه وفي شعار «من النهر إلى البحر»، ونظرية «وحدة الساحات» التي كانت حطباً يوقِد نيران الهستيريا الأمنية والاستفراد الأقلّي، خصوصاً أن قوى «وحدة الساحات» تنكر الشرعية على وجود الدولة العبرية نفسه.
فوق هذا فمصلحة إسرائيل في السلام أقلّ، بلا قياس، من مصلحة الفلسطينيين. ذاك أنها الطرف الذي يطالبه السلام بـ«التنازل» عن أراضٍ محتلة، ما يفسّر مماطلاتها وتسويفها وتحايلها. أما الفلسطيني، صاحب الحقّ من جهة، والضعيف من جهة أخرى، فهو المدعوّ إلى بذل كل جهد ممكن لجرّها إلى العملية السياسية. بيد أن الممانعات للسلام، وإجهاض مبادراته وخططه، كانت تتولى خنق ذاك الجهد في مهده. وهكذا استحال الوصول إلى مرحلة تخاض فيها معركة سياسيّة مع الدولة العبرية، ويُفرض فيها امتحان جدّي عليها وعلى رغبتها في السلام.
ويعرف من عاش الستينات والسبعينات أن هتافات «لا للحل السلمي لا» و«لا سلام ولا استسلام» كانت أكثر ما تصدح به حناجر المتظاهرين في المشرق، فيما جرت المماثلة بين تعبيري «تسوية» و«تصفية»، ولم ينجُ عبدالناصر نفسه من التخوين حين بدا أنه ينحو نحو التسوية. وعلى رغم محاولات للتمييز أقدم عليها بعض المثقفين اليساريين والليبراليين، احتفظت مماهاة «اليهودي» بـ«الصهيوني» بالصوت الأعلى.
وإسرائيل تتحوّل، منذ عقود، من موقع يميني إلى آخر أشدّ يمينية، ما يواكبه تحول في تركيبها السكاني يضعف أصواتها الراغبة في السلام. غير أن الإضعاف الأكبر لـ«حركة السلام» نجم عن العمليات الإرهابية التي شنتها «حماس» وأخواتها في التسعينات إبّان حربها على اتفاق أوسلو، مكملةً ما كان يفعله الاستيطانيون والدينيون الذين قتلوا رابين.
لكن بمعزل عن حالات التواطؤ الكثيرة من موقع التناقض، تحقّق السلام مع مصر منذ 1979 ومع الأردن منذ 1994. وهو، رغم كل شيء، يبقى سلاماً مستقراً. فإذا أضفنا بضع تجارب متفرّقة أمكننا استنتاج أن السلام ليس مستحيلاً، وأن الأطراف المعنية ليست بالضرورة جوهراً مغلقاً وثبوتياً أُحكم إيصاد أبوابه عن كلّ سلام. ويمكن تلمّس هذا الواقع في أحداث كثيرة كالانتقال من مدريد في 1991، حين رفض الإسرائيليون التفاوض مع الفلسطينيين بصفتهم هذه، إلى أوسلو في 1993، حين أُبرمت التسوية مع منظّمة التحرير، أو حين قُرّر مبدأ الانسحاب من طرف واحد من لبنان في 2000.
إلا أن من المصاعب الحاليّة التي تعترض السلام، وهذا ما لا يُشار إليه غالباً، أن الطرف الذي يقاتل إسرائيل يُهزم في حروبه على نحو يساهم في إضعاف الطلب على السلام، الذي يُفترض أن يقوم على شيء من التكافؤ، فيما يعزّز النزوع الإسرائيلي إلى طلب الاستسلام. فالهزيمة التي حلّت بنتيجة «طوفان الأقصى» وضعت الإسرائيليين على أبواب دمشق، وقبلها كانت حرب 67 قد حُسمت مع بلدان ثلاثة في ستة أيام، بحيث بات مطلوباً، من أجل التفاوض، شنّ «حرب استنزاف» في عهد عبدالناصر، ثمّ طرد الخبراء السوفييت في عهد السادات، من دون أن يكون هذان الجهد والتنازل كافيين. والحقيقة أن الميزة التفاضلية لحرب أكتوبر(تشرين الأول) تكمن هنا بالضبط، فهي، مقروءة من زاوية السلوك الساداتي، كانت حرباً لتحريك السياسة ولإنهاء الحروب، أفضت إلى هزيمة تستوعبها السياسة، لا إلى هزيمة من النوع الذي يلغي الحاجة إلى السياسة، أقلّه من وجهة نظر المنتصر.
والكلام اليوم صعب عن السلام فيما إسرائيل تقتل وتبيد من دون أن تعبأ بأي سلام. لكنْ ما العمل في ظل استمرار وضع كهذا سوى المضيّ في طريق السعي إلى سلام ما، سلام لا تخاض فيه، لا اليوم ولا غداً، حروب من صنف 67 أو «طوفان الأقصى».