عالم على فوهة بركان
لم يعد المشهد الدولي اليوم شبيهاً بما كان عليه قبل عقدين فقط. الاضطرابات تتسارع، التحالفات تتبدل، والأزمات تتشابك بطريقة تنذر بانفجار شامل. لقد أصبح من الواضح أن النظام العالمي الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية، وترسّخ مع نهاية الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بالقيادة، قد استُهلك بالكامل ولم يعد قادراً على إدارة الصراعات ولا على ضبط التوازنات . لكن السؤال الأهم: هل يمكن للقوى الكبرى أن تصل إلى توافق دولي ينتج نظاماً عالمياً جديداً، أم أن العالم ماضٍ نحو حرب كبرى يدفع الجميع ثمنها؟
النظام الدولي بين الموت السريري والبحث عن بديل
النظام الذي بُني على أنقاض الحرب العالمية الثانية قام على توازنات محددة: الولايات المتحدة وحلفاؤها في مواجهة الاتحاد السوفييتي، ثم تحول بعد 1991 إلى نظام أحادي القطبية بقيادة واشنطن. إلا أن هذا التفوق الأميركي بدأ يتآكل تدريجياً مع صعود الصين كقوة اقتصادية وعسكرية، ومع عودة روسيا إلى الساحة الدولية بعد عقدين من الانكفاء.
اليوم، نشهد وضعاً وسطياً يمكن وصفه بـ “الموت السريري للنظام القديم”، حيث لم يعد قادراً على حماية السلم الدولي، فيما النظام الجديد لم يولد بعد. هذه المرحلة الانتقالية تُعد الأخطر، لأنها تفتح الباب للفوضى ولتصاعد الصدامات الإقليمية التي قد تتحول إلى حرب عالمية شاملة .
قوى كبرى تبحث عن نفوذ مطلق
الصراع الأميركي ـ الصيني حول تايوان والمحيط الهادئ، الحرب الروسية ـ الأوكرانية المفتوحة، التوتر المستمر في الشرق الأوسط، إضافة إلى الانقسام العميق داخل الاتحاد الأوروبي، كلها مظاهر تؤكد أن القوى الكبرى لم تعد تبحث عن شراكة أو توازن، بل عن نفوذ مطلق.
المعضلة أن كل قوة تريد نظاماً عالمياً جديداً على مقاسها:
واشنطن تريد الحفاظ على زعامة منفردة ولو عبر عسكرة العالم.
بكين تسعى إلى نظام اقتصادي وتجاري متعدد الأقطاب يُضعف الدولار ويمنحها زمام المبادرة.
موسكو تراهن على كسر الهيمنة الغربية وإعادة الاعتراف بها كقطب عسكري وسياسي.
أما أوروبا، فهي ممزقة بين تبعيتها للولايات المتحدة ورغبتها في استقلالية القرار.
وبين هذه القوى، يدفع الجنوب العالمي ثمن الصراعات دون أن يمتلك أدوات التأثير الفعلي، رغم أنه يمثل الكتلة البشرية الأكبر والموارد الأضخم .
مؤسسات عاجزة وثقة منهارة
الأمم المتحدة ومجلس الأمن، اللذان أُنشئا لضمان الأمن والسلم الدوليين، يبدوان اليوم مجرد مسرح للخطابات، بلا قدرة على منع الحروب أو وقف العدوان أو حتى إدارة الأزمات الإنسانية. هذه العجز المؤسسي عمّق الشعور بأن النظام الدولي الحالي لا يخدم الشعوب بل يخدم الكبار وحدهم. ومن هنا، تتصاعد الدعوات إلى إصلاح المؤسسات الدولية أو استبدالها بآليات جديدة أكثر عدلاً وواقعية .
الجنون يقود العالم
المثير للقلق أن العالم اليوم لا يقوده منطق الحكمة والعقلانية بقدر ما تسيره نزعات الجنون والمغامرة. القرارات المصيرية في عواصم كبرى تتخذ أحياناً بدوافع انتخابية أو أيديولوجية أو حتى شخصية، في تجاهل واضح للكوارث التي قد تترتب عليها.
الحرب في أوكرانيا مثال صارخ: طرف يريد الانتصار بأي ثمن، وطرف آخر يرفض التراجع خشية الانكسار، بينما النتيجة الحقيقية أن الاقتصاد العالمي كله خاسر، وأن الشعوب تدفع الثمن في شكل غلاء طاقة وغذاء وانكماش اقتصادي.
وإذا ظل العالم في هذا الجو، فإن النتيجة الطبيعية ستكون اندلاع حرب عالمية ثالثة. لكن المختلف هذه المرة أن المنتصر فيها سيكون خاسراً أيضاً، لأن أسلحة اليوم النووية والبيولوجية والسيبرانية كفيلة بجعل أي انتصار عسكري هزيمة إنسانية واقتصادية وأخلاقية شاملة.
الحاجة إلى توافق دولي عاجل
من هنا، يصبح التوافق الدولي لإنتاج نظام عالمي جديد ضرورة وجودية، لا مجرد مطلب مثالي. المطلوب ليس إلغاء التنافس بين القوى الكبرى، بل ضبطه ضمن قواعد واضحة تضمن:
احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
إعادة التوازن الاقتصادي بين الشمال والجنوب.
إصلاح مجلس الأمن ليعكس التوازنات الحقيقية.
وضع ضوابط صارمة لانتشار الأسلحة النووية والتكنولوجية.
تعزيز التعاون الدولي لمواجهة التهديدات العابرة للحدود مثل التغير المناخي والأوبئة.
سيناريوهات المستقبل: توافق أم انفجار؟
المشهد الدولي مفتوح على سيناريوهين رئيسيين:
السيناريو الأول: التوافق الهادئ إدراك القوى الكبرى أن استمرار الفوضى سيؤدي إلى دمار شامل، ما يدفعها إلى صياغة “صفقة كبرى” تعيد رسم قواعد اللعبة، شبيهة بما حدث بعد الحرب العالمية الثانية.
السيناريو الثاني: المخاض العنيف استمرار الصدامات وتصاعدها تدريجياً، حتى تصل إلى نقطة الانفجار بحرب إقليمية أو عالمية، تكون بمثابة “الزلزال” الذي يفرض نظاماً جديداً، لكن بثمن باهظ يدفعه الجميع.
وبالنظر إلى الواقع الحالي المليء بالتصعيد وانعدام الثقة، يبدو أن السيناريو الثاني هو الأقرب، إلا إذا حدثت معجزة سياسية تعيد للعقل صوته أمام جنون السلاح .
خيار الإنسانية الأخير
العالم يقف اليوم على مفترق طرق. إما أن يُنتج توافقاً دولياً جديداً يعيد الاعتبار للحكمة والعقلانية ويؤسس لنظام عالمي أكثر عدلاً وتوازناً، أو يترك نفسه رهينة الجنون والمغامرات العسكرية حتى ينفجر في حرب عالمية لا رابح فيها.
إنها لحظة مفصلية، لن تحدد فقط مصير الدول الكبرى، بل مصير البشرية كلها .