مقالات

هل تتمكن الجزائر من منع فرنسا إلغاء إتفاقية 1968؟

أزراج عمر  

أزراج عمر  

تبون وماكرون في لقاء سابق

مع اقتراب موعد الزيارة التي ينوي الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون القيام بها إلى العاصمة الفرنسية باريس أواخر الشهر الجاري، تلبية للدعوة الرسمية التي تلقّاها من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، بدأت سُحب التوتر تخيّم على العلاقات الجزائرية- الفرنسية، وتظهر إلى العلن من جديد، وهذه المرّة ليس بسبب تباين وجهات النظر حول ملف “الذاكرة التاريخية”، الذي لم يعرف حتى الآن أي تقدّم يُذكر، وإنما جراء خلافات أخرى لا تقلّ حدّة، نذكر منها تلك التي تتصدّرها مضايقات اليمين الفرنسي المتطرّف لأبناء الجالية الجزائرية المقيمين في فرنسا، خصوصاً تلامذة المدارس، ومحاولات الحكومة الفرنسية إعادة النظر في ملفات آلاف المتقاعدين الجزائريين الذين عملوا في فرنسا ثم أُحيلوا على التقاعد وفقاً للقوانين الفرنسية، حيث عاد آلاف منهم إلى أرض الوطن للإقامة فيها بصفة دائمة، وفيها يتلقّون معاشاتهم التي تحولّها إليهم المصالح الإدارية الفرنسية. هناك مشكلة ثالثة تظهر هذه الأيام إلى السطح، وتتمثل في الدعوات الفرنسية، على المستوى الرسمي، إلى ضرورة مراجعة اتفاقية 1968 المبرمة بين السلطات الفرنسية والجزائرية، والتي يفترض أنّها تمنح الجزائريين المقيمين في فرنسا حقوقاً تُعتبر استثنائية، إذا قورنت مثلاً بحقوق الجاليات الأجنبية الأخرى، والتي كانت سابقاً جزءاً من مستعمرات فرنسا، كتونس والمملكة المغربية والسنغال وغيرها. في هذا السياق، يعتقد مراقبون سياسيون جزائريون، أنّ فرنسا تثير راهناً هذه المشكلات الثلات، من أجل ثني الجزائر عن سياساتها التي تستهدف فكّ الارتباط بمصالح فرنسا رويداً رويداً، وتعويضها بزبائن آخرين، وفي المقدّمة الصين وإيطاليا وربما دول مجموعة “بريكس” في المستقبل المنظور، وبخاصة إذا انضمت إليها الجزائر. يبدو واضحاً أنّ فرنسا سوف تلتزم آلية التحرّك بخطوات محسوبة، ولا يُتوقع أن تتهور وتقوم بتنفيذ خططها ومشاريعها المذكورة آنفاً، وذلك لأنّها تدرك أنّ العلاقات الجزائرية- الفرنسية لا تزال محكومة في الغالب ببنى الإرث الكولونيالي، ومنها استمرار تواجد اللغة الفرنسية في النسيج الثقافي والأدبي الجزائري، والمكوّن البشري للجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا والذي يبلغ تعداد أفراده 5 ملايين نسمة، وكذلك إتفاقات إيفيان التي لا تزال تربط بين البلدين وتحول دون إلغاء إتفاقية 1968 بشحطة قلم. في ضوء ما تقدّم، يمكن القول إنّ الخلاف الجزائري- الفرنسي حول التصريحات والممارسات التي تصدر عن اليمين الفرنسي المتطرّف، لن تتحوّل إلى عملية تطهير الفضاء الفرنسي من الوجود الفعلي للجالية الجزائرية وهويتها الثقافية والروحية في فرنسا. ولكن،  النظام الجزائري سيبقى يطالب السلطات الفرنسية بسنّ التشريعات التي بموجبها تتدخّل لوقف تطرّف اليمين الفرنسي، الذي يبرّر أفعاله مرّة باسم حماية العلمانية الفرنسية ومرّة أخرى باسم توجيه تهمة تقوقع الجالية الجزائرية داخل أسوار الهوية الدينية الإسلامية التقليدية، التي كثيراً ما توصف فرنسياً بأنّها تفرَخ معاداة الانفتاح على مكونات رأسمال الهوية الفرنسية. وفي الواقع، فإنّ السلطات الجزائرية تتحمّل جزءاً من مسؤولية تعرّض الجزائريين لمختلف أشكال العنفين الرمزي والمادي على الأراضي الفرنسية، إذ في إمكان أي شخص محايد ومهتم بشؤون الجالية الجزائرية في فرنسا أن يلاحظ غياب استراتيجية جزائرية مطبقة، تفضي إلى تنظيم وتأطير بنيوي اجتماعي، وثقافي، وفني، وإعلامي، ورياضي، واقتصادي لصالح أفراد هذه الجالية الوطنية، عبر المحافظات والبلديات الكبرى في فرنسا، وذلك رغم وجود سفارة جزائرية في العاصمة الفرنسية التي تختزل نشاطاتها في “المتابعات الدبلوماسية” الشكلية، وفي صرف أموال “الصندوق الأسود” على الحفلات المخملية التي تُخصّص لاستضافة الدبلوماسيين الأجانب والأحباب المقرّبين. ورغم وجود عدد مُعتبر من القنصليات الجزائرية عبر التراب الفرنسي، إلّا أنّ هذه المؤسسات ما فتئت تحصر مهامها فقط في استخراج جوازات السفر وعقود الزواج وشهادات الوفاة، وبسبب هذا السلوك البيروقراطي ومختلف أنماط الإهمال الأخرى، نجد اليمين الفرنسي المتطرّف يستغل الفرصة وينفرد بالجزائريين الذين بلا حماية ثقافية واجتماعية جادّة ومتواصلة. أما بشأن المحاولات الفرنسية الرامية إلى إلحاق الضرر بالمتقاعدين الجزائريين الذين عملوا في فرنسا، فإنّ السلطات الجزائرية تعارض ظاهرياً المساس بمعاشات هؤلاء من طرف الإدارة الفرنسية المسؤولة عن صناديق التقاعد. ويُلاحظ أنّ هذه المشكلة قد تخرج إلى السطح، بعد أن أدلى أخيراً الوزير الفرنسي المسؤول عن الحسابات العمومية، غابريال أتال، بتصريحات لوسائل الإعلام الفرنسية ونقلتها فوراً وسائل الإعلام الجزائرية، وجاء فيها ما معناه، أنّ مصالح وزارته قد اضطرت إلى العمل بهذا الإجراء من أجل تنفيذ “خطّة مكافحة الاحتيال الاجتماعي التي أطلقتها السلطات الاجتماعية واستهدفت فئة المتقاعدين، لاسيما أولئك الذين يقيمون خارج الاتحاد الأوروبي، والبالغ عددهم نحو نصف مليون متقاعد، أكثر من نصفهم (حوالى 300 ألف) في الجزائر وحدها”. ولكن المراقبين المتخصّصين في شؤون المهاجرين الجزائريين في فرنسا، قد فهموا أنّ الوزير الفرنسي يقصد بعبارة “الاحتيال الاجتماعي” حالات معينة ارتكبها بعض أفراد عائلات المتقاعدين الجزائريين المقيمين في الجزائر، الذين يُتهمون بإخفاء وثيقة وفاة هذا المتقاعد أو ذاك عن المصالح الإدارية الفرنسية المسؤولة عن ضخ معاشات التقاعد في حسابات المتقاعدين خارج الأراضي الفرنسية، وذلك تحايلاً على القانون الفرنسي، لضمان تدفق تلك المعاشات بعد وفاة أصحابها الحقيقيين، والاستحواذ عليها على مدى سنوات طويلة. وفي هذا الصدد،  تفيد التحرّيات عن وجود مثل بعض هذه الحالات مع الأسف، ولكن تعميمها ليس صحيحاً دائماً. فالسلطات الجزائرية تحاجج بدورها، أنّ القوانين الجزائرية تعاقب أيضاً على مثل هذا السلوك إذا تمّ الكشف والإعلان عنه، سواء من طرف الإدارة الفرنسية أو الإدارة الجزائرية. وفي الواقع، فإنّ قضيتي الاعتداء على الجالية الجزائرية والخطة الفرنسية الجديدة التي يُتوقع أن تُسفر عن مراقبة وربما وقف صبَّ معاشات تقاعد في حسابات المتقاعدين الجزائريين المقيمين في الجزائر، ليستا فقط المهدّدتين للعلاقات الجزائرية- الفرنسية، بل هناك أيضاً تهديد آخر ويتلخّص في التحرّكات الفرنسية التي تستهدف إلغاء اتفاقية 1968 التي تمنح الجزائري المقيم على الأراضي الفرنسية حقوقاً استثنائية، مثل التمتع بشهادة الإقامة لمدة 10 سنوات، وممارسة مختلف المهن بحرّية كاملة، والحصول على الإقامة النهائية، فضلاً عن حق أي جزائري متزوج من فرنسية أو جزائرية متزوجة من فرنسي، في جمع شمل جميع أفراد أُسرهم ومنحهم حق الإقامة في فرنسا. تعتبر الجزائر أنّ المساس باتفاقية 1968 خط أحمر، وترفض حتى الجلوس إلى طاولة المفاوضات لتبادل وجهات النظر بشأنها. ومن الواضح أنّه لهذا السبب بالذات، التقى خلال الأسبوع الماضي سفير الجزائر لدى باريس سعيد مويسي ورئيس مجلس الشيوخ الفرنسي جيرارد لارشي، حيث أكّدت التسريبات أنّ هذا اللقاء كان بهدف نزع فتيل لغم تراجع فرنسا عن اتفاقية 1968 من طرف واحد. وفي سياق هذا التحرّك الدبلوماسي، يتساءل المراقبون السياسيون الجزائريون: هل سيتمخّض عن اللقاء الرسمي المنتظر في أواخر الشهر الجاري في فرنسا بين الرئيسين الجزائري والفرنسي، تسوية ما تساعد في فتح أفق التعاون بعيداً من ميراث الاستعمار؟