ارتفاع الوفيات عن المعدل في دول أوروبا تزامن مع قفزة أسعار الطاقة نتيجة حرب أوكرانيا
أحمد مصطفى صحافي متخصص في الشؤون الدولية الجمعة 12 مايو 2023 21:26
شهدت أسعار الغاز والكهرباء ارتفاعاً غير مسبوق في أوروبا (رويترز)
رغم أن أسعار الجملة للغاز الطبيعي والكهرباء في أوروبا تراجعت بشدة عن مستوياتها غير المسبوقة التي وصلت إليها العام الماضي، فإن الأوروبيين بدأوا يحصون خسائر استخدام الطاقة سلاحاً في الصراع الدائر بين الغرب وروسيا نتيجة الحرب في أوكرانيا، ومع أن قطع موسكو بعض إمدادات الغاز الطبيعي في بداية الحرب مطلع 2022 لم يكن السبب الوحيد في أزمة الطاقة، إذ إن العقوبات الغربية تضمنت بشكل تصاعدي حظر استيراد الغاز والنفط الروسي الذي كان يوفر ما يقارب نصف حاجات أوروبا من الطاقة، فإن تهمة “استخدام سلاح الطاقة” تلصق بروسيا فقط.
ويحسب الأوروبيون الآن نتائج أزمة الطاقة التي أدت إلى ارتفاع فواتير الاستهلاك المنزلي العام الماضي، ولم تنخفض كلفة الفواتير حتى رغم انخفاض أسعار الغاز الطبيعي بشدة الآن، باعتبارها الضرر الفعال لسلاح الطاقة الروسي، وفي أحدث تلك التحليلات حول تأثير سلاح الطاقة الروسي (منعاً وحظراً)، نشرت مجلة “إيكونوميست” في عددها هذا الأسبوع تقريراً عن تأثير ارتفاع أسعار الطاقة للمنازل بـ28 دولة أوروبية في زيادة الوفيات عن معدلاتها الطبيعية في تلك الدول، وخلص تحليل البيانات والمعلومات والأرقام التي جمعتها المجلة من شركة الاستشارات “فازا إي تي تي” إلى أن ارتفاع أسعار الطاقة للاستهلاك المنزلي في أوروبا الشتاء الماضي أدى إلى وفيات أكثر مما تسبب به فيروس وباء كورونا.
الموت برداً
بعد بداية الحرب في أوكرانيا نهاية فبراير (شباط) العام الماضي، توقفت بعض إمدادات الغاز الطبيعي الروسي لدول أوروبا التي ساندت أوكرانيا، ثم وسعت الولايات المتحدة وأوروبا نطاق العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة على موسكو لتشمل حظر استيراد النفط والغاز الطبيعي الروسي، إلا أنه مع دخول فصل الشتاء ارتفعت أسعار الكهرباء للمنازل 69 في المئة والغاز 145 في المئة.
وسعت دول أوروبا إلى الحصول على الطاقة من مصادر أخرى، بخاصة من الولايات المتحدة والشرق الأوسط وأفريقيا، وأدى ذلك إلى انخفاض أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا والكهرباء في سوق الجملة بشكل كبير، لكن أسعار الاستهلاك المنزلي ظلت مرتفعة كثيراً عما كانت عليه قبل حرب أوكرانيا، بخاصة في دول مثل بريطانيا.
ونتيجة ارتفاع كلفة فواتير الطاقة للاستهلاك المنزلي اضطر كثير من الأسر في الدول الأوروبية إلى عدم تدفئة منازلهم بالقدر الكافي، إذ يزيد الجو البارد من خطر الإصابة بأمراض القلب وأمراض الجهاز التنفسي، التي يمكن أن تؤدي إلى الوفاة.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي نشرت مجلة “الإيكونوميست” تقريراً توقعت فيه أن زيادة أسعار الطاقة للمنازل يمكن أن تؤدي إلى زيادة في الوفيات بما بين 22 ألفاً و138 ألف شخص، في حيت أثبت تحليل البيانات الذي نشرته المجلة هذا الأسبوع أن تقديراتها كانت صحيحة إلى حد كبير.
نموذج تحليل الأرقام
اعتمد نموذج التحليل على المؤشرات التقليدية في حساب الوفيات الإضافية، أي الزائدة عن المعدلات الطبيعية في الأوقات المختلفة من العام وبحسب الطبيعة الديموغرافية لكل مجتمع، وتمت مقارنة الأرقام لشهور نهاية العام الماضي مع متوسط الفترات المقابلة في الأعوام السابقة، وهي الطريقة ذاتها التي كانت تستخدم في وقت أزمة وباء كورونا لحساب الوفيات الزائدة نتيجة الإصابة بفيروس كورونا، وكان متوسط الفترة المقابلة للمقارنة في نموذج تحليل “الإيكونوميست” هي ما بين 2015 و2019، وجاءت النتيجة أنه في 28 دولة أوروبية شملتها الدراسة والتحليل بلغ عدد الوفيات الزائد في الفترة من نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 وفبراير (شباط) 2023 ما يصل إلى 149 ألف شخص، أي بزيادة 7.9 في المئة عن فترة المقارنة.
اقرأ المزيد
- عصر انعدام أمن الطاقة
- أوروبا تتكيف مع نقص إمدادات الغاز الروسية
- “الصيانة” توقف ضخ الغاز الروسي إلى أوروبا
واستبعد التحليل الوفيات الزائدة نتيجة أسباب أخرى، على سبيل المثال بلغ عدد الوفيات الزائدة نتيجة الإصابة بفيروس كورونا في تلك الفترة 60 ألف شخص، ومع الأخذ في الاعتبار أن هناك حالات وفيات بالفيروس غير مسجلة، إلا أنها لا يمكن أن تشمل كل الوفيات الزائدة في تلك الفترة، بخاصة أن نسبة الوفيات من الإصابة بالفيروس انخفضت في دول أوروبا في الشتاء الماضي إلى 40 في المئة مقارنة مع 79 في المئة في الفترة ما بين مارس (آذار) 2020وسبتمبر (أيلول) 2022.
ومن العوامل الأخرى التي جرى استبعادها الوفيات الزائدة نتيجة التغير في الطقس، إذ إنه معروف أن انخفاض درجة الحرارة بمقدار درجة مئوية لمدة ثلاثة أسابيع يؤدي إلى ارتفاع معدل الوفيات 2.2 في المئة، وبما أن الشتاء الماضي لم يكن بالبرودة التي شهدتها فصول الشتاء في الفترة من 2015 إلى 2019 فإن البرودة الشديدة لا يمكن أن تكون سبباً في كل الوفيات الزائدة.
تباين أسعار الطاقة
وهكذا فنتيجة التحليل هي أن الإصابة بفيروس كورونا كانت مسؤولة عن وفيات زائدة الشتاء الماضي بلغت 59 ألفاً و700 شخص، بينما كانت العوامل الأخرى مسؤولة عن 21 ألفاً و500 وفاة زائدة عن المعدل في تلك الفترة، أما ارتفاع أسعار الطاقة فأدى إلى وفيات إضافية الشتاء الماضي بلغ عددها 68 ألف شخص.
ويشير التقرير إلى أن تدخل الحكومات في الدول الأوروبية عبر حزم دعم مختلفة لتقليل عبء كلفة فواتير الطاقة ربما أسهم في تفادي زيادة أكبر في عدد الوفيات الزائدة، وبحسب التحليل فإنه في 23 دولة أوروبية دعمت الأسر في فصل الشتاء، تم تفادي زيادة عدد الوفيات الزائدة بمقدار 26 ألف شخص على الأقل.
وشهدت الدول الأوروبية تبايناً واضحاً في عدد الوفيات الزائدة نتيجة ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز في الفترة الماضية، وقدر النموذج التحليلي أن زيادة الأسعار بمقدار 10 سنتات يقابلها ارتفاع في عدد الوفيات الزائدة بنسبة 2.2 في المئة، وهكذا نجد عدد الوفيات الزائدة نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة في دول مثل ألمانيا وبريطانيا تجاوز 40 وفاة في كل 100 ألف من السكان. أما في فرنسا وإسبانيا فكان معدل الوفيات الزائدة نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة أقل من 20 وفاة في كل 100 ألف من السكان.
ويعود التباين إلى مدى تأثر الدول بأزمة الطاقة الناتجة من الحرب في أوكرانيا وحجم الدعم الذي قدمته الحكومات لخفض كلفة فواتير استهلاك الطاقة للمنازل، لكن الخلاصة أنه رغم ما قد يبدو من حل القدر الأكبر من مشكلة أزمة الطاقة في أوروبا فإن “سلاح الطاقة” كان مميتاً فعلاً وأوقع ضحايا تمثلت في أعداد الوفيات الزائدة عن المعدلات العادية.