هل تفنى البشرية أم تصل إلى ما فوق الإنسانية؟

1

سؤال الفيلسوف السويدي نيكولاس بوستروم يفتح مجالاً واسعاً للنقاش حول العقل الاصطناعي والدماغ البشري وهل يمكن أن يكون العلم وحده طريقاً لتغيير حياة الإنسان في القرون المقبلة؟

  اندبندنت عربية  

كثير من “الفوق إنسانيين” يتوقعون أن ينشأ هذا الذكاء الفائق خلال النصف الأول من القرن الـ21 (غيتي)

“إن البشرية تعيش أخطاراً وجودية تشكلها أحداث من شأنها أن تقضي على الحياة الذكية التي نشأت على الأرض، أو تقلل من إمكاناتها بشكل جذري”.

تبدو هذه العبارة مثيرة للهلع وليس للقلق فقط، وهي واحدة من بنات أفكار هذا الفيلسوف السويدي المعروف بقراءاته وكتاباته المعمقة، لا سيما حول العلاقة بين الإنسان والآلات الذكية الاصطناعية بقية هذا القرن.

لم يعد سراً أن الذكاء الاصطناعي التقليدي، وتالياً السوبر – ذكاء اصطناعي، قد بات أحد المخاوف الوجودية التي تقلق العلماء والفهماء، الفلاسفة والمفكرين، وجميع الذين يتعاطون مع الأفكار “الما بعد مستقبلية”، وجميعهم يقطع بأن هذا الوارد الجديد على البشر، وعلى رغم مما يقدمه للخليقة من تسهيلات حياتية، إلا أنه من الوارد جداً أن ينقلب عليها ذات لحظة زمنية بعينها، ليحيل انتصاراتها انكسارات، ونعيمها إلى جحيم، وهو ما توقعه هذا الفيلسوف السويدي الأصل، واتفق معه في توقعاته أكثر من 11 ألف شخص عام 2015، ما دعا لزيادة الوعي العام حول العالم والخاص بهذا التهديد الذي لا يزال تقدير خطره أقل من اللازم، فيما العلماء المتخصصون يقدرون أن احتمال تسبب الذكاء الاصطناعي في انقراض البشرية يقدر قبل نهاية هذا العقد بنحو 10 في المئة خلال بقية القرن.

من هو نيكولاس بوستروم صاحب هذه الرؤية، ولماذا يعتبر الرجل واحداً من ألمع العقول العالمية، التي يعلو صوتها منذراً ومحذراً البشرية من الهول الأعظم الآتي من بعيد، وكأن قصة فرانكشتاين تتجسد من جديد؟

نيكولاس بوستروم الفيلسوف الشاب

جرى العرف أن يكون الفيلسوف رجلاً متقدماً في العمر، طاعناً في السن، لكن أن يضحى المرء فيلسوفاً في الأربعينيات وربما قبلها، فهذا ينم عن عقلية غير اعتيادية، تقدمية هائلة، قادرة على مساءلة الأيقونات حيناً، ومشاغبتها أحياناً أخرى.

ولد بوستروم في مدينة هلسينبورغ بالسويد في العاشر من مارس (آذار) 1973، وتلقى فيها تعليمه الثانوي وحصل على البكالوريوس في الفلسفة والرياضيات والذكاء الاصطناعي من جامعة غوتنبورغ، كما حصل على شهادة الماجستير في الفلسفة والفيزياء من جامعة استوكهولم كبرى جامعات البلاد.

اتجه من ثم لدراسة الماجستير في علم الأعصاب الاحتباسي في كلية الملك في لندن، ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة من كلية لندن للاقتصاد، وقد أشرف على رسالته العلمية البروفيسور كولن هاوسون، وشغل بعدها منصباً تدريبياً في جامعة ييل الأميركية بين عامي 2000- 2002.

اهتم بوستروم مبكراً بالمبدأ الأنتروبي، وتفكيك هذا المبدأ أمر معقد جداً، غير أنه بكلمات بسيطة مقدار لقياس العشوائية أو النظام في الكون من حولنا عبر مقاييس محددة للمادة.

كان هذا المبدأ مدخلاً لبوستروم لدراسة الأخطار التي تتعرض لها الحضارة والبشر فوق كوكب الأرض، وذلك سيراً مع اهتماماته بالمبدأ الإنساني وأخلاقيات التعزيز وأخطار الذكاء الخارق.

اقرأ المزيد
  • هل يمهد تطور الذكاء الاصطناعي لـ”فناء البشرية”؟
  • خطر الذكاء الاصطناعي أشبه بجائحة… لكن هذا لن ينذر بفناء البشرية
  • هل يقترب الذكاء الاصطناعي العام من القدرة على إفناء البشرية؟
  • طفرة الذكاء الاصطناعي وضعت البشرية أمام مصير مجهول
  • حدث مدمر كاد أن يفضي إلى هلاك البشرية قبل 900 ألف عام

أسس بوستروم برنامج “أكسفورد مارتن”، لمعرفة مقدار تأثير التكنولوجيا المعاصرة على حياة الإنسان في المستقبل. يشغل حالياً منصب المدير المؤسس لمعهد مستقبل الإنسانية في جامعة أكسفورد.

أدرج بوستروم بين عامي 2009 و2015 ضمن قائمة أفضل 100 مفكر على مستوى العالم في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية الشهيرة.

في كتاباته يضعنا بوستروم أمام حقيقة مفادها أن ما يعجز كثيرون عن إدراكه اليوم هو أن التقنية لن تكتفي بتغيير محيطنا أو الأثير في تصرفاتنا فحسب، كما يشهد بذلك عصر الهواتف الذكية الذي صاحبته ظواهر “التشيؤ” والانعزال عن المجتمع من جهة، والانجراف وراء أهواء وموضات جديدة من جهة أخرى، بل سيحين الوقت عاجلاً أم آجلاً لأن تتصرف بنا جسداً وعقلاً، مما يفتح الباب أمام تغيرات ونتائج لا تخطر على أذهان كثيرين.

تبدو كتب بوستروم من أهم الكتابات في علم مستقبليات الذكاء الاصطناعي، ومنها كتاب: “الذكاء الخارق: المسارات والأخطار والاستراتيجيات”، والذي نشره عام 2014، وحقق أعلى المبيعات في قائمة صحيفة “نيويورك تايمز”، وأوصى إيلون ماسك، وبيل غيتس بقراءة هذا العمل لأهميته الفائقة.

الذكاء الاصطناعي ومخاوف بوستروم

منذ عام 2016 يرتفع صوت بوستروم منذراً ومحذراً من أن كل الدلائل تشير إلى أن تطور الاختراعات التي تعمل بواسطة الذكاء الاصطناعي، يمكنها أن تصل بحلول عام 2075 إلى درجة من التطور تستخدم فيها قدراتها للقضاء على الجنس البشري.

يؤكد الفيلسوف السويدي على أن مثل تلك الأفكار الخطيرة نراها اليوم مجرد تخيلات اعتدناها في أفلام الخيال العلمي، لكن بعض العلماء مثل ستيفن هوكينغ، يؤكدون أن التطور السريع للتكنولوجيا يجعل تلك الأفكار تبدو أكثر واقعية.

هل تمضي الذكاءات الاصطناعية في طريق الهيمنة على العقل البشري في المدى الزمني المنظور؟

يقطع بوستروم وغيره من العلماء بأن قدرات الذكاء الاصطناعي كانت عام 2022 تعادل 10 في المئة من قدرات الإنسان العقلية، غير أنها بحلول عام 2040 ستضحى 50 في المئة، أما في عام 2075 فستصل إلى 90 في المئة منها، وهذا ما يفسر قلق بوستروم من أن تستخدم تلك الآلات قدراتها ضد مخترعيها، أي أن ينقلب السحر على الساحر.

من هذا المنطلق تتجلى المخاوف من أن يعتبر الذكاء الاصطناعي تهديداً وجودياً بسبب احتمال أن يكون البشر غير قادرين على التحكم في مساراته بمجرد ظهوره، فقد يفضي الذكاء الاصطناعي عن قصد أو على الأرجح عن غير قصد، على البشرية أو يحبس البشر في عالم فاسد دائم، وربما يستخدم من جانب أفراد أو مؤسسات غير حسنة النية، تسعى في طريق استعباد بقية البشرية أو يحدث لها ما هو أسوأ من ذلك.

Nick_Bostrom2.jpg

الفيلسوف السويدي نيكولاس بوستروم أثار مخاوف وجودية على الإنسان (غيتي)

والشاهد أن بوستروم يحسب له أنه كان ولا يزال أول من نقل مستوى الحديث والتفكير، من مرحلة الذكاء الاصطناعي وما يدور حوله من مكاسب ومخاوف في الوقت ذاته، إلى عالم ما أطلق عليه الذكاء الفائق أو الذكاء الخارق، حيث يعتبر أننا اليوم متفرجون على عالم لم نعد نفهمه، فالتحولات التقنية لم تعد تنتظر منا اللحاق بها أو محاولة إدراك نتائجها في حياتنا، بل هي تحدث فحسب، ولهذا فإن شعورنا اتجاه عواقبها المحتمية لن يتجاوز المفاجأة والانبهار الفوري، ثم الصدمة والقلق وقت يكون التخطيط والانتفاع فيه أولى بكثير.

ماذا عن هذا الذكاء الفائق، وكيف له أن يغير حياة البشرية في حاضرات أيامنا، وكذا في مستقبلها القريب؟

الذكاء الخارق وتجاوز العقل البشري

يفتح بوستروم مجالاً واسعاً لنقاش هذا النوع من أنواع الذكاءات الإنسانية، عبر مؤلفه النوعي جداً “ما فوق الإنسانية… دليل موجز إلى المستقبل”، حيث يعتبر العقل الفائق الذكاء أي الذكاء الفائق، الذي يطلق عليه أحياناً “الذكاء الخارق”، هو الذي يملك القدرة على التفوق بشكل جذري على أفضل العقول البشرية في كل مجال تقريباً، بما في ذلك الإبداع العلمي، والحكمة العامة، والمهارات الاجتماعية.

يميز بوستروم في بعض الأحيان بين الذكاء الفائق الضعيف، والقوي، فالذكاء الفائق الضعيف هو ما ستحصل عليه إذا تمكنت من إدارة عقل بشري بصورة متصاعدة، كما لو فعلته على حاسوب سريع، وإذا كان معدل سرعة الرفع يعادل ألف ضعف من سرعة الدماغ البيولوجي، فسيدرك الواقع وكأنه متباطئ بألف ضعف. ومن شأنه أن يفكر في فترة زمنية معينة بأفكار أكثر من ألف ضعف من نظيره البيولوجي.

أما الذكاء الفائق فيشير إلى العقل الذي لا يتجاوز سرعة الدماغ البشري فحسب، بل يفوقه ذكاء من ناحية نوعية وبنحو مماثل، فقد تكون هناك أنواع من الذكاء لا يمكن الوصول إليها حتى لأدمغة بشرية سريعة جداً نظراً إلى قدراتها الحالية.

هل يذهب بوستروم إلى إمكانية تغيير هذه الحقائق بالتالي تعديل شكل العالم المقبل؟

يبدو أن ذلك كذلك قولاً وفعلاً، وعنده أن شيئاً بسيطاً مثل زيادة حجم شبكاتنا العصبية أو توصيلتها قد يمنحنا بعضاً من هذه القدرات، وقد تتطلب التحسينات الأخرى إعادة تنظيم كامل للهندسة الإدراكية أو إضافة طبقات إدراكية جديدة فوق تلك القديمة.

متى يمكننا أن نرى هذا النوع من أنواع الذكاء الفائق؟

الشاهد أن كثيراً من “الفوق إنسانيين”، لكن ليس جميعهم، يتوقعون أن ينشأ هذا الذكاء الفائق خلال النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، وهذا يتطلب أمرين: الأجهزة والبرمجيات.

عن تداعيات بشرية فائقة الذكاء

يبدو التساؤل الفلسفي المباشر الذي يستتبع الحديث عن الذكاء الفائق هو: “ما تبعاته على مسارات الإنسانية في حاضرها ومستقبلها؟

بحسب بوستروم فإنه من الواضح أن وصول الذكاء الفائق سيؤدي إلى توجيه ضربة قاصمة لوجهات النظر بشرية المحور للعالم. ومع ذلك، فإن تداعياتها العملية ستمثل تأثيرات أهم من آثارها الفلسفية، فقد يكون خلق الذكاء الفائق آخر اختراع سيحتاج إليه البشر حيث يمكن للأجهزة الذكية الفائقة أن تهتم بمزيد من التطور العلمي والتقني. وستفعل ذلك بنحو أشد كفاءة من البشر. ولن تظل الإنسانية البيولوجية حينها أذكى أشكال الحياة على الساحة.

من هنا يتبين لنا كيف أن آفاق الذكاء الخارق تثير عديداً من القضايا والمخاوف الكبيرة التي يجب أن نفكر فيها بعمق قبل تطورها الفعلي. والسؤال الأهم هو: ما الذي يمكننا فعله لتعظيم فرص الاستفادة من الوصول للذكاء الفائق بدلاً من إلحاقه الأذى بنا؟

يمتد نطاق الخبرات اللازمة لمعاجلة هذه المسألة إلى أبعد من مجتمع باحثي الذكاء الاصطناعي. فعلماء الأعصاب، والاقتصاديون، وعلماء الإدراك، وعلماء الحاسوب، والفلاسفة، وعلماء الأخلاق، وعلماء الاجتماع، وكتاب العلوم، والخبراء الاستراتيجيون العسكريون، والسياسيون، والمشرعون، وكثير غيرهم، يجدر بهم تجميع أفكارهم لو أردنا التعامل بحكمة مع ما قد يكون أهم مهمة يجب أن يتصدى لها نوعنا البشري.

هل يعني الأمر في كل الأحوال أن بلوغ مرحلة الذكاء الخارق أمر قابل للتحقق بالفعل؟

الثابت أنه يود كثير من “الفوق – إنسانيين” أن يصبحوا فائقي الذكاء شخصياً. ومن الواضح أن هذا هدف بعيد وغير مؤكد، لكنه قد يصبح قابلاً للتحقق إما من خلال رفع العقول والتحسين الذي يلي ذلك، أو التحسين التدريجي لأدمغتنا البيولوجية، عن طريق أدوية التنشيط المستقبلية، أي عقاقير تعزيز الإدراك، والتقنيات الإدراكية، وأدوات تقنية المعلومات، كأجهزة الحاسوب القابلة للارتداء، والوسائط الذكية، وأنظمة فرز المعلومات، أو برامج التصور، وواجهات الحاسوب العصبية، أو زراعات الدماغ.

البشرية وتحديات فوق – إنسانية

من النقاط التي تميز بوستروم في إلقاء الضوء الكافي عليها، قضية الفوق – إنسانية، وهو مصطلح مثير للتفكير لم يطرح من قبل… ما الذي يعنيه به؟

بحسب كتاباته المتنوعة، يمكن القول إن “التيار فوق – الإنساني، يعني وسيلة للتفكير في المستقبل تقوم على فرض أن النوع البشري في شكله الحالي لا يمثل نهاية تطورنا، بل مرحلة مبكرة نسبياً، ويعرفها رسمياً بالحركة الفكرية والثقافية التي تؤكد إمكانية ومرغوبية التحسين الجذري للحالة البشرية من خلال العقلانية العملية، لا سيما من خلال تطوير وخلق تقنيات واسعة النطاق للقضاء على الشيخوخة وتعزيز قدرات الإنسان الفكرية والمادية والنفسية بشكل كبير”.

ويمكن النظر إلى الفوق – إنسانية باعتبارها امتداداً للنزعة الإنسانية، وهي مستمدة منها جزئياً. فالإنسانيون يعتقدون أن البشر مهمون، والأفراد مهمون. قد لا نكون مثاليين، لكن يمكننا تحسين الأمور من خلال تعزيز التفكير العقلاني، والحرية، والتسامح، والديمقراطية، والاهتمام بإخوتنا البشر.

هنا فإن أنصار الفوق – إنسانية يؤيدون ذلك، ويؤكدون أيضاً على ما نملك الاستعداد للتحول إليه. فمثلما نستخدم الوسائل العقلانية لتحسين الحالة البشرية والعالم الخارجي، يمكننا أيضاً استخدامها لتحسين أنفسنا، أي الكائنات البشرية. وبالقيام بذلك، فإنا لا نقتصر على الأساليب الإنسانية التقليدية، كالتعليم والتنمية الثقافية. فيمكننا أيضاً استخدام الوسائل التقنية التي ستمكننا في النهاية من تجاوز ما يتصوره البعض حين يفكرون في “الإنسان”.

تتبدى فلسفة بوستروم جلية من خلال حديثه عما يصفنا كبشر، وهو ليس مجرد شكلنا فقط، أو تفاصيلنا البيولوجية الحالية، التي لا توضح ما قيم فينا، بل ذلك الدور لطموحاتنا وأهدافنا، وتجاربنا، وأنواع الحياة التي نعشيها.

s-l120011.jpg

غلاف كتاب “الذكاء الخارق: المسارات والأخطار والاستراتيجيات” (أمازون)

 وعند أنصار الفوق – إنسانية، وبوستروم على القمة، أن التقدم يحدث حين يكتسب مزيد من الناس قدرة أكبر على تشكيل أنفسهم، وحياتهم، والأنحاء التي يرتبطون بها مع الآخرين، وفقاً لأعمق قيمهم. فالفوق- إنساني يثمن الحكم الذاتي: أي قدرة الأفراد وحقهم في تخطيط واختيار حياتهم الخاصة.

هل العلاقة بين الفوق – إنسانيين والتقنيات المعاصرة علاقة وجوبية؟

يرى الفيلسوف السويدي أنه يوجد بالطبع بعض الناس الذين يختارون، لأي عدد من الأسباب، التخلي عن فرصة استخدام التقنية لتحسين أنفسهم. أما الفوق – إنسانيين فيسعون لخلق عالم يمكن فيه للأفراد ذوي الإرادة المستقلة أن يختاروا البقاء من دون تعزيز تقني، أو أن يتم تعزيزهم، وتحترم فيه خياراتهم هذه.

التقنيات والتوقعات رؤية استشرافية

هل نيكولاس بوستروم رجل يتحدث عن الذكاء الاصطناعي فحسب؟

مؤكد أن اهتماماته تفوق جزئية واحدة من جزئيات المشهد الإنسانوي إن جاز التعبير، ذلك أنه بجانب اهتماماته بفكرة العقول الذكية والفائقة منها تحديداً، هو مهموم جداً بفكرة الإنسان وتطوره على جميع الصعد، تقنياً وبيولوجياً، ولهذا فإنه يولي اهتماماً فائقاً لقضايا من نوعية التقنية الحيوية، والهندسة الوراثية، والخلايا الجذعية، عطفاً على الاستنساخ.

في حديثه على سبيل المثال عن التقنية الحيوية، والتي تفتح باباً واسعاً للجسد البشري ينجو منه من أمراض العصر الحاضر وما يستجد من أمراض وأوبئة غير واضحة للعيان في حاضرات أيامنا، في حديثه يقول إن التقنيات الحيوية هي تطبيق التقنيات والأساليب القائمة على العلوم البيولوجية. ويشمل ذلك شتى المشاريع المتنوعة كالتخمير، وتصنيع الأنسولين البشري، والأنترفيرون، وهرمون النمو البشري، والتشخيص الطبي، واستنساخ الخلايا والاستنساخ التناسلي، والتعديل الوراثي للمحاصيل، والتحويل البيولوجي للنفايات العضوية واستخدام البكتيريا المعدلة وراثياً في تنظيف تسريبات النفط، وأبحاث الخلايا الجذعية، وأكثر من ذلك بكثير.

أما الهندسة الوراثية فهي مجال التقنية الحيوية الذي يعني بالتغيير الموجه للمواد الجينية.

يعتبر بوستروم أن الفوائد الطبية المحتملة للتقنية الحيوية أكثر من أن تحصى، فالباحثون يعملون على كل الأمراض الشائعة بدرجات متفاوتة من النجاح. والتقدم لا يحدث في تطوير الأدوية والتشخيص فحسب، بل وفي خلق أدوات ومنهجيات بحث أفضل، مما يسرع بدوره في التقدم.

وعند النظر إلى التوقعات على المدى البعيد، يجب علينا حساب تأثير التحسينات في عملية البحث، فقد تم الانتهاء من مشروع الجينوم البشري قبل فوات الأوان المحدد، غالباً لأن التقديرات الأولية استهانت بمدى تحسين تقنية الأجهزة خلال فترة المشروع.

ينصح بوستروم بأن العالم يحتاج ألا يركن إلى تهويل كل تحسن جديد، بل أن يتعامل انطلاقاً من مقولة “لا تحارب الحقائق بل تعامل معها”.

هل سعى بوستروم لإعادة إحياء بعض من علوم المصريين القدماء، لا سيما علم التحنيط؟ وإن كان قد اقترب من تلك المنطقة بالمساءلة، فهل اتبع طرق الأولين، أم أنه في رؤيته لما فوق الإنسانية الآنية قدم طروحات وشروحات مغايرة؟

عن التحنيط بالتجميد مستقبلاً

التحنيط بالتجميد إجراء طبي تجريبي يسعى إلى إنقاذ الأرواح عن طريق وضع الأشخاص الذين لا يمكن علاجهم بالعمليات الطبية الحالية ويعتبرون أمواتاً من الناحية القانونية، في خزانات تحت حرارة منخفضة، على أمل أن يتمكن التقدم التقني من إحيائهم.

يقول بوستروم، إنه لكي يعمل التحنيط بالتجميد اليوم، ليس من الضروري أن نتمكن من إعادة إحياء المرضى المحنطين بالتجميد، وإنما كل ما نحتاج إليه هو أن نتمكن من الحفاظ على التقنيات الممكنة التي يتم تطويرها في المستقبل، سنتمكن في يوم من الأيام من إصلاح تلف التجميد وعكس السبب الأصلي لتوقف الحياة. وعنده أنه لا يمكن التعرف إلى أكثر من نصف الإجراء الكامل للتجميد اليوم، ولا يمكن تنفيذ النصف الآخر في المستقبل.

هل هذا الحديث قابل للتطبيق العملي؟

المؤكد بحسب كتابات الفيلسوف السويدي، هو أن ما نعرفه الآن يتعلق بإمكانية تثبيت حالة المريض عبر تبريده في النيتروجين السائل (-196 درجة مئوية)، ويحدث قدر كبير من تلف الخلايا نتيجة لعملية التجميد. ويمكن التقليل من هذه الإصابات بإتباع إجراءات التعليق اللاحقة التي تنص على إشباع الجسم المتعطل بواقيات التجميد، بل يمكن تجاوز تكون البلورات الثلجية المدمرة بالكامل في عملية تعرف باسم التزجيج، حيث يتم تحويل جسم المريض إلى نوع من الزجاج. قد يبدو هذا وكأنه علاج غير محتمل، لكن الغرض من التحنيط بالتجميد هو الحفاظ على بنية الحياة بدلاً من عمليات الحياة، لأنه يمكن إعادة تشغيل عمليات الحياة من حيث المبدأ، ما دامت المعلومات المشفرة في الخواص الهيكلية للجسم، وبخاصة الدماغ، محفوظة بشكل كاف. وبمجرد تجميده، يمكن تخزين المريض لآلاف السنين من دون أي تدهور إضافي في الأنسجة.

تحسين الحاضر أم التخطيط للمستقبل؟

لعل آخر تساؤل يمكننا أن نختتم به هذه القراءة السريعة في عقل نيكولاس بوستروم الفيلسوف السويدي الشهير: “أليس علينا التركيز على المشكلات الحالية مثل تحسين حالة الفقراء، بدل تركيز جهودنا على التخطيط للمستقبل البعيد؟”.

يقطع بوستروم بأنه علينا فعل الأمرين معاً، بمعنى افعلوا هذه ولا تتركوا تلك.

يعتقد بوستروم أن عديداً من التقنيات والاتجاهات التي يناقشها “الفوق – إنسانيين” هي حقيقة واقعة بالفعل، فقد غيرت التقنية الحيوية وتقنية المعلومات قطاعات كبيرة من اقتصاداتنا، كما تتجلى أهمية الأخلاقيات الفوق – إنسانية في القضايا المعاصرة مثل أبحاث الخلايا الجذعية، والمحاصيل المعدلة وراثياً، والعلاج الجيني البشري، وفحص الأجنة، وقرارات نهاية الحياة، والطب المعزز، وأسواق المعلومات، وأولويات تمويل البحوث. ومن المرجح أن تزداد أهمية الأفكار الفوق – إنسانية مع انتشار فرص تحسين الإنسان.

هل بوستروم فيلسوف أم عالم، مفكر استشرافي أم رؤيوي حالم؟

ربما هو كل هذه وأكثر، فهو رجل غزير الإنتاج يصعب على التصنيف.

التعليقات معطلة.