أنقرة عبرت عن انفتاحها على البرلمان الجديد وتوقعات بمراجعة الاتفاق التجاري بين البلدين
تركيا الدولة الوحيدة التي أدانت علناً حل قيس سعيد للبرلمان السابق (أ ف ب)
أثار لقاء جمع رئيس البرلمان الجديد في تونس إبراهيم بودربالة بالسفير التركي شاغلار فهري شاكير ألب تأويلات واسعة النطاق، خصوصاً أن أنقرة كانت الدولة الوحيدة التي انتقدت علناً قرار الرئيس قيس سعيد بحل البرلمان السابق.
وكان البرلمان المنحل في تونس تسيطر عليه “حركة النهضة”، الذراع السياسية لـ”الإخوان المسلمين” التي حظيت لسنوات بدعم من تركيا، وهو ما جعل أوساطاً سياسية تونسية ترجح أن تركيا ستتخلى عن دعم الحركة بعد أن تراجعت سياسياً وشعبياً، مما أدى إلى سقوطها في الحكم بعام 2021.
وسلم ألب بودربالة رسالة من رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطوب، معرباً عن ارتياحه “للعلاقات الممتازة القائمة بين تونس وتركيا والعمل المتواصل على مزيد دعمها وتطويرها في مختلف المجالات، ولا سيما في المجال البرلماني”.
“ليس لها من خيار”
لم تفصح تركيا عن تغير في موقفها من التطورات السياسية المتسارعة التي تعرفها تونس، على رغم أنها أول دولة دانت على مستوى رفيع وعلني قرار الرئيس سعيد في عام 2022 بحل البرلمان السابق بعد تجميد أعماله لأشهر.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد قال في أبريل (نيسان) 2022، إن “قرار حل البرلمان المنتخب يشكل ضربة لإرادة الشعب التونسي، ولبدء تحقيق ضد نواب شاركوا في جلسة برلمانية”، مشيراً بذلك إلى جلسة عقدت افتراضياً لنواب تونسيين ألغوا خلالها قرارات اتخذها الرئيس سعيد.
ولم يكن تعليق أردوغان الأول من نوعه، إذ استنكر شنطوب قبله وحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، قرار الرئيس التونسي بحل البرلمان السابق، وهو ما دفع تونس إلى استدعاء السفير التركي والاحتجاج رسمياً على هذه التصريحات.
النائبة في البرلمان التونسي الجديد فاطمة المسدي قالت إن “تركيا ليس لها من خيار سوى القبول بالتوجه الجديد للدولة التونسية، توجه نحو تكريس القانون ومحاسبة كل من أجرم، وأولهم تنظيم الإخوان مثلها مثل الدول الأخرى التي تعتبر التنظيم عنصر خراب وفساد”.
وأضافت المسدي لـ”اندبندنت عربية”، “أعتقد أنه إذا قبلت تركيا بذلك في مصر، فإنها ستقبل بذلك في تونس أيضاً”.
لقاء رئيس البرلمان التونسي الجديد مع السفير التركي (صفحة مجلس النواب التونسي على فيسبوك)
وكان أردوغان قد عقد لقاءات مثيرة للجدل مع رئيس “حركة النهضة الإسلامية” الذي كان يرأس كذلك البرلمان السابق، راشد الغنوشي، وهو ما فجر سجالات مستمرة في تونس بين الحركة وخصومها.
وكان الرئيس قيس سعيد قد رد على تصريحات أردوغان والمسؤولين الأتراك بشكل مبطن في السابع من أبريل العام الماضي، أي بعد أيام من تلك التصريحات بالقول إن “تونس ليست إيالة، ولا ننتظر فرماناً من أي جهة كانت، سيادتنا وكرامتنا قبل أي اعتبار”.
أردوغان لم يتغير
يثير التطور الأخير تساؤلات حول ما إذا كان الرئيس التركي سيعدل بوصلته من الاقتصار على دعم “حركة النهضة” ومهاجمة تحركات الرئيس قيس سعيد أم سيواصل في النهج نفسه، خصوصاً بعد التغيرات التي طرأت على السياسة الخارجية لأنقرة في سنة انتخابية لأردوغان.
وقال الدبلوماسي ووزير الخارجية التونسي الأسبق أحمد ونيس إن “هناك استقطاباً في تونس بين تركيا وحزب النهضة من جهة، لأن راشد الغنوشي بصفته رئيس البرلمان السابق كان يزور أردوغان بشكل مباشر، ومن جهة أخرى الرئيس قيس سعيد وأنصاره”.
اقرأ المزيد
- هل يسرع الرئيس التونسي بتركيز المحكمة الدستورية بعد السجال حول صحته؟
- تونس في سباق مع الزمن للخلاص من الديون الخارجية خلال 2023
- هل يستعيد برلمان تونس دفة التشريع وثقة الناس؟
وتابع ونيس في تصريح خاص أن “مبادرة اللقاء الأخير جاءت من السفير التركي، حتى يرفع عن الرئيس أردوغان وتركيا عموماً تهمة أنها مرتبطة ضرورة براشد الغنوشي، إذ يحاولون إظهار أن العلاقات مفتوحة، وليس لأن الغنوشي لم يعد رئيساً للبرلمان، فإن تركيا أصبحت بعيدة من تونس، أو مصالحها ستتعرض لتهديدات”.
وحول ما إذا كان هذا التطور نابعاً من تغير في تصورات الرئيس التركي، قال ونيس “في اعتقادي أردوغان لا يتغير، لكنه يتظاهر بالتغير تحت ضغط الأزمة الاقتصادية التي تعانيها بلاده، فاضطر إلى النزول للواقعية من خلال تحسين علاقاته مع أكثر من دولة في المنطقة والعمل على تحسين علاقاته مع تونس كذلك”.
مصالح متبادلة
في المقابل، يرى محللون أن هناك حاجة متبادلة إلى تجاوز الخلافات السابقة بين تونس وتركيا باعتبار أن كلا البلدين يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية حادة، وسط تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بالنسبة إلى تونس التي تعاني أيضاً تراكم الديون.
أما تركيا فإن رئيسها، الذي يواجه مساعي حثيثة من قوى المعارضة السياسية لإطاحته في الانتخابات الرئاسية المقرر تنظيمها هذا العام، أعاد تطبيع علاقات بلاده مع مصر وغيرها بعد سنوات من القطيعة بسبب ملفات سياسية.
وقالت الصحافية التونسية المتخصصة في الشأن السياسي جيهان علوان إن “تركيا كانت أول الدول التي دانت حل البرلمان، حيث اعتبره أردوغان يشكل ضربة لإرادة الشعب، وعبر عن خشيته من أن يؤدي هذا الأمر إلى إلحاق الضرر بالمرحلة الانتقالية وبالمسار الديمقراطي للبلاد، الذي دعمته تركيا خلال السنوات العشر بعد الثورة”.
وأشارت علوان لـ”اندبندنت عربية” إلى أن “تركيا دعمت أيضاً حركة النهضة أكثر حزب حكم البلاد منذ الثورة، وهو ما جعل جزءاً مهماً من الرأي العام يتحدث عن قوة العلاقة بين تركيا والإسلاميين في تونس، وتم تصنيف تركيا من أهم الأطراف الخارجية الداعمة للإسلاميين وللثورات العربية، لكن أخيراً أصبح واضحاً أن ما يعني تركيا هو مصالحها، لا غير، وهو ما أثبته اللقاء الأخير بين رئيس البرلمان التونسي والسفير التركي”. ورأت أن “تصريحات السفير التركي بعد لقاء بودربالة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن تركيا تقف اليوم إلى جانب المشروع السياسي لقيس سعيد والمؤسسات التي انبثقت من الدستور الجديد على عكس موقفها عندما حل قيس سعيد البرلمان الفارط، وبهذا الموقف تبدو تركيا قد حسمت أمرها بتبني دبلوماسية واقعية تتعامل مع الأمر الواقع”.
وشددت علوان على أن “الثابت أن ما يحدد تصرفات الدول، بما في ذلك تركيا، هو الاعتبارات البراغماتية، وليست الاعتبارات الأيديولوجية، ولو كان العكس لواصلت تركيا دعمها للإسلاميين، ولبقيت على الموقف نفسه من حل البرلمان السابق، وليس أيضاً الاعتبارات المبدئية المبنية على القيم الكونية كالديمقراطية والحرية، أي إن دعم تركيا خلال السنوات العشر الماضية للمسار الديمقراطي للثورة التونسية لم يكن في حقيقة الأمر إلا دعماً للقوى التي تعاقبت على الحكم”.
واستنتجت أن “هذا أمر مشروع، فمن حق الدول أن تحدد سياساتها الخارجية وعلاقاتها وفق ما يتماشى مع مصالحها، وهو ما ينطبق على تونس أيضاً التي يبدو أنها حريصة اليوم على تطبيع علاقاتها الخارجية، خصوصاً للبحث عن تعبئة الموارد المالية للحد من وطأة أزمتها الاقتصادية، ولإيجاد بديل عن الاتفاق المالي مع صندوق النقد الدولي”.
لا تشكيك في شرعية البرلمان
يأتي هذا التطور في وقت تسعى فيه المعارضة التونسية إلى الضغط على الرئيس قيس سعيد، لكن محاولاتها لم تنجح في دفعه إلى التراجع ولو خطوة إلى الخلف، حيث لا يزال يرفض فتح أي حوار وطني.
وقال سعيد أخيراً بعد تقارير إعلامية محلية وأجنبية عن تعرضه لوعكة صحية، إن “هناك من لا يزال يتحدث عن حوار، لن يكون هناك حوار خارج البرلمان، ما الجدوى منه أصلاً؟”.
ويستعد الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر النقابات العمالية، وأطراف أخرى لإطلاق مبادرة تدعو رئيس الجمهورية إلى قيادة حوار وطني يعالج الملفات السياسية والاقتصادية، وذلك وسط استمرار رفض جبهة الخلاص الوطني التي تعد “حركة النهضة” مكونها الرئيس، الاعتراف بالمؤسسات الجديدة، وفي مقدمتها البرلمان. وترفض الجبهة الاعتراف بشرعية البرلمان الجديد، خصوصاً بعد المشاركة الضعيفة للغاية في انتخاباته.
وقالت فاطمة المسدي إنه “لا أحد بإمكانه التشكيك في شرعية البرلمان التونسي الجديد، لا تركيا ولا غيرها، حيث لم يكن هناك إقصاء لأي طرف في الانتخابات، هناك من شارك، وكانت جميع الأطراف قادرة على المشاركة والفوز، وكثيرون من مختلف الحساسيات السياسية شاركوا، وهناك من فاز، وهناك من لم يفز”.
وأردفت أن “سيادة الدولة التونسية ومؤسساتها نقطة أساسية في أي علاقة دبلوماسية، وكل دولة تريد أن تكون علاقاتها جيدة، ولإبرام شراكات واتفاقات عليها أن تكون في تواصل مع مؤسسات الدولة التونسية”.
وقالت “أعتقد أن أي دولة تحترم نفسها عليها أن تحترم مؤسسات الدولة التونسية، وكل ما يحدث خارج ذلك من تشكيك في شرعية البرلمان هو مجرد أضغاث أحلام من قبل بعض الشخصيات”.
ويبدو أن لزيارة السفير التركي علاقة بمساعي تونس إلى مراجعة الاتفاق التجاري الموقع بين أنقرة وتونس، إذ أعلنت الأخيرة في أغسطس (آب) 2021 أنها ستعيد النظر فيها، بعد أن حملتها أوساط سياسية مسؤولية العجز التجاري بين البلدين.
ووقعت تونس وتركيا اتفاق تجارة حرة عام 2005 في إطار مساعي البلدين إلى تعزيز العلاقات بينهما. وكشف مدير التعاون مع أوروبا في وزارة التجارة التونسية نبيل العرفاوي في تصريح سابق عن أن مفاوضات ستجرى مع الجانب التركي، وستكون مفتوحة على تعديل الاتفاق أو حتى إلغائه.
وقال العرفاوي إن “العجز التجاري لتونس مع تركيا بلغت قيمته نحو 890 مليون دولار أميركي، فيما يعد ثالث أكبر عجز تجاري لتونس مع دولة أخرى بعد الصين وإيطاليا”، مشيراً إلى أن “السلطات التونسية كانت قد رفعت عام 2018 التعريفة الجمركية لعدد من المنتجات الواردة من تركيا، لكن من دون أن يسفر ذلك عن تقليص ملموس في حجم العجز التجاري المتفاقم”.
وتعتقد فاطمة المسدي أن “زيارة السفير التركي تندرج في إطار استكشاف الاتفاقات بين البلدين، خصوصاً في المجال الاقتصادي، وهناك توجه جديد في تونس بعد 25 يوليو (تموز) 2021 لفرض السيادة الوطنية، فالبرلمان التركي قد يكون أراد أن يتحدث في العلاقة الاقتصادية بين أنقرة وتونس، وهل هناك بعض الاتفاقات التي سيراجعها البرلمان التونسي”.
ودعت إلى مراجعة الاتفاق التركي لأنه أضر بالاقتصاد التونسي، مشيرة إلى مصلحة الدولة التونسية في إنقاذ اقتصادها الوطني عبر مراجعة الاتفاق وبعض الاتفاقات مع دول أخرى.