أرض تختبئ الحياة في ثناياها وتسمى كريبتوبيوتيك (بيكساباي)
ربما توجب عليك التفكير مرتين قبل أن تخطو على تلك الطبقة الجافة والمقرمشة من التربة، فقد تكون نظامًا بيئيًا حيويًا يمكنك المساعدة على حمايته.
تحت حرارة الشمس الحارقة في ولاية يوتاه الأميركية، تزرع ساشا ريد قطعًا من النباتات والبكتيريا والأشنة والفطريات أيضًا. لكن ريد ليست مزارعة! للوهلة الأولى، تبدو حقولها كأنها أرض ترابيّة في أغلب الأحيان. إنها عالمة بيئة، وما تزرعه هو تربة “كريبتوبيوتيك” (cryptobiotic)، وتسميتها مشتقة من “كريبتو” بمعنى خفيّ أو خبيء، و”بيوتيك” بمعنى أشياء حيَّة. بالتالي، يُقصد بمصطلح “كريبتو بيوتيك” أنها تربة تخبّئ في دواخلها أشكالاً حيَّة خفيّة، قد تكون على هيئة ميكروبات أو حشرات دقيقة أو غيرها. يتميز ذلك النوع من التربة بلون غامق يميّزه عمّا يحيط به.قشرة تكتظ بحياة مخبَّأةتُعرف تربة كريبتوبيوتيك أيضًا باسم القشرة الحيوية. هي مجتمع من الكائنات الدقيقة، التي تعيش في التربة وتشكّل قشرة مميزة على سطح التربة في المناطق القاحلة. تؤدّي هذه القشور دورًا حيويًا في أنظمة الأراضي الجافة حول العالم، حيث تساعد على تماسك التربة وتمنع التآكل. كذلك، تحافظ تربة كريبتوبيوتيك على المياه، وتوفر موائل لميكروبات متعدّدة للعيش فيها، وتضيف النيتروجين إلى التربة.في أغلب الأحيان، تبدو التربة كريبتوبيوتيك كأنّها بقعة متغيّرة اللون على الأرض. ولكن عند الفحص الدقيق، يتّضح أن هذه البقعة هي عبارة عن فسيفساء من كتل صغيرة داكنة، مزيّنة بفرشات صغيرة من الطحالب وبقع غير بارزة من التجمعات العشبية الصغيرة. وعلى الرغم من أن الأرض المقرمشة قد تكون مغرية للمشي عليها، على غرار الحال مع السير على أوراق الخريف الجافة. لكن ذلك يُعتبر خطأً كبيرًا، إذ تحتاج القشرة الحيويّة عقودًا كي تتجدّد.إلى جانب تعرض القشور الحيوية للسحق تحت الأقدام، نواجه في هذه الأيام تهديداً آخر من بصمة الإنسان، يتمثّل بالتغيّر المناخيّ. نتيجة لذلك، يسعى الباحثون لمعرفة المزيد عن هذه القشور وكيفية استعادتها، وفق ما نشرت مجلة “سيمثونيان” Smithsonian العلميّة.تراجع الحياة في البيئةتصف أنيتا أنتونينكا (عالمة بيئة نباتات وتربة في جامعة أريزونا) الوقت الذي تصرفه على دراسة القشور الحيوية بأنه “مزدحم لكنه مثير أيضًا، لأننا بطريقة ما نخترع الطريقة التي نؤدّي بها هذا العمل”.برأيها أن “الأراضي الجافة التي توجد فيها القشور الحيوية هي نظم بيئية حيوية، لكنها من بين الأكثر تدهورًا حول العالم. مع تراجع القشور الحيوية في هذه المناطق، ستنخفض خصوبة التربة، وستؤدي التعرية بالرياح إلى نثر التربة المفككة غير المحمية. كذلك ستقلّ كميّة المياه التي تتسرّب في الأرض. وقد تتأثّر دورة الكربون فيها أيضاً، بسبب انخفاض عدد الكائنات الحيّة الدقيقة التي تمتصّ ثاني أكسيد الكربون”.
تغطي القشور الحيوية ما يقرب من 12 في المئة من سطح الأرض، وتوجد في كلّ قارات العالم. وغالباً ما يتمثل العنصر الرئيسي لهذه القشور بالبكتيريا، التي تؤدي عملية التمثيل الضوئي. يعرف نوع البكتيريا الموجود في القشور الحيوية باسم “سيانوبكتيريا” (cyanobacteria)، ويُشكّل خيوطاً لزجة تعمل كالغراء في التربة الرملية الصحراوية، ممّا يخلق سطحًا متكتلًا ومتشقّقًا حيث تتواجد الفطريات والبكتيريا الأخرى.تحتوي بعض القشور على جميع المكونات الحيوية المطلوبة لخصوبة التربة، بينما تفتقد قشور أخرى بعضَها. وبغض النظر عن تكوينها، تعمل جميع القشور الحيوية كجلد حيّ يغطي الأراضي الصحراوية.درع واقية يهدّدها المناخ“إنها توفر درعًا واقية للتربة”، يوضح فيران غارسيا-بيشيل، عالم الأحياء الدقيقة في جامعة ولاية أريزونا في تيمبي. حينما بدأ العمل مع القشور الحيوية قبل نحو عقدين، لم نكن نعرف عنها سوى القليل. في مراجعة Annual Review of Microbiology لعام 2023، يستعرض غارسيا-بيشيل ما تعلّمه الباحثون عن التربة الكريبتوبيوتيك خلال العقود القليلة الماضية، إضافة الى المجهول بشأنها.أظهر عدد من الدراسات أن الزيادة في درجات الحرارة والتغيرات في كمية الأمطار تشكّل تهديدًا. تشير النماذج إلى أن التغير المناخي قد يقلّص تغطية القشور الحيوية بنسبة تتراوح ما بين 25 إلى 40 في المئة خلال العقود الستة المقبلة. وتعتبر القشور حساسة تجاه ارتفاع درجات الحرارة وتغيّرات هطول الأمطار. وتساهم الفترات الجافة والزيادة غير المعتادة في كمية الأمطار بإلحاق الضرر بها، بناءً على موقعها.لمواجهة هذا التراجع، يحاول علماء البيئة مثل ساشا ريد، من “هيئة المسح الجيولوجي الأميركي”، إيجاد طرق لإعادة زراعة القشور الحيوية في التربة.
في ما تصفه بأنه أكبر مشتل خارجيّ للقشور الحيوية في العالم، تركّز ريد على ثلاثة جوانب رئيسية لاستعادة القشور الحيوية. يتمثّل العنصر الأول بفهم البيئة، التي تنمو فيها القشور بشكل أفضل، إضافة إلى البيئة التي يُمكن أن تنتقل إليها بشكل جيّد.في البداية، حقق الباحثون نجاحًا كبيرًا في زراعة مجتمعات من القشور الحيوية في البيوت الزجاجية الداخلية. لكن حياة تلك القشور، بحسب ريد، بدت مريحة للغاية. لكنها حينما نُقلت إلى الخارج، واجهت صعوبة في الاستقرار والتأقلم.مع ذلك، تمكّنت بعض القشور من النمو مباشرة في الخارج. وتشير ريد إلى أنها تحاول “توفير تنشئة أكثر صرامة لها. نعرف جيداً أن القشور تواجه ظروفاً بيئية أكثر واقعياً في الهواء الطلق، بالرغم من الدعم الذي تتلقاه من خلال الريّ وتوفير الظلال”.عش وازدهريتمحور القسم الثاني من عمل ريد في مزرعة القشور الحيوية حول دراسة مدى قدرة القشرة الحيوية على النمو والازدهار، إذ تتمتع القشور الحيوية بقدرة تكاثر شاملة، ممّا يعني أن قطعة صغيرة منها يمكن أن تساهم في تكوين قشور جديدة. بالتالي، تتجسّد إحدى طرق زراعة القشور في مناطق جديدة بتفتيت بعضها ورشّها في الطبيعة، على غرار نثر البذور.في المقابل، قد تتفاعل مكونات القشور الحيوية مع مكوّنات البراري بطرق غير معروفة؛ لذا تتساءل ريد عن مدى الاستفادة من زراعة القشور في مجتمعات أكبر وأكثر رسوخًا، وتقول “نضعها في تلك البيئات القاسية، كأنها وحدها، ونقول لها “عش وازدهر”، لكننا لا نراها تفعل ذلك بالقدر الذي نأمله”.في الجانب الثالث من أبحاث ريد في مزرعة القشور الحيوية، يسعى العلماء لمعرفة مدى ملاءمة عناصر محددة من القشور الحيوية لعمليات التجدّد بمواجهة التغيّر المناخي.لتحقيق ذلك، أخذت ريد وأنتونينكا قشوراً حيوية من مواقع أكثر حرارة وجفافًا، بمعنى أنها تمثل ما قد تبدو عليه الأراضي الجافة في جنوب غربي الولايات المتحدة في المستقبل، ثمّ عمدوا إلى زراعتها مرة أخرى في الحدائق. الآن، يعمل أولئك العلماء على مراقبة كيفية نمو القشور بعد النقل إلى المواقع الجديدة.مع تطوّر القشور، سيعمل الباحثون على فحص الأنواع أو مصادر المجتمعات القشريّة التي تبدو أنها تنمو بشكل جيّد وخاصّ.يُمكن للأشخاص في المناطق الجافّة أن يفعلوا الشيء نفسه في حدائقهم. إذا كان أصحاب الممتلكات يخططون لمشروع قد يتسبب بتدمير أو بناء فوق التربة التي تحتوي على قشرة حيوية، يمكنهم ببساطة إنقاذ القشرة الموجودة ثمّ وضعها في دلاء والحفاظ عليها جافة وباردة، بحسب أنتونينكا. بعد ذلك، يمكنهم رشّها مرة أخرى في مناطق تشكو من تدهور أحوال التربة فيها.على المقلب الآخر، يمكن للناس المساعدة في الحفاظ على القشور البيولوجية من خلال الابتعاد عن المسارات لتفادي سحقها، بالإضافة إلى زيادة الوعي ونشر المعلومات حولها لجذب الاهتمام إليها.إذا لم يعرف الناس بوجود القشور الحيوية، فقد يغفلون بسهولة عن ذلك النظام البيئي الصغير تحت أقدامهم. تختم ريد بالكلمات الآتية: “انحني على يديك وركبتيك، وابدأ بالنظر إليها. صحيح أننا ندرسها بسبب أهميتها، ولكن جمالها وروعتها يستحقان النظر إليهما أيضاً”.