هل كانت لهايدغر حياة قبل أن يصبح من كبار الفلاسفة الألمان؟

1

أفكار من الأزمنة الساحقة صنعت ما سيكون عليه عند إصداره “الكينونة والزمن”

إبراهيم العريس باحث وكاتب  

مارتن هايدغر (1889 – 1976) (موقع الفلسفة الألمانية)

بالنسبة إلى البعض تكاد حياة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر تبدأ مع كتابه العمدة “الكينونة والزمن” فيما تكاد تلك الحياة بالنسبة إلى مؤرخين أقل جدية، تبدأ من علاقته بالفيلسوفة حنة آرندت التي كانت تلميذته وتصغره سناً ومع ذلك ارتبطت به بعلاقة عاطفية تواصلت – ولو متقطعة – طوال حياتهما. وفي المقابل ثمة فئة ثالثة أكثر لؤماً ترى أن حياة هايدغر الحقيقية إنما بدأت في الوقت الذي عيّن فيه عمدة لجامعة ألمانية بوصفه منخرطاً في الحزب الاشتراكي – القومي (أي النازي). والحقيقة أن هذا كله لا يبدو في نهاية الأمر جزءاً من حقيقة علمية وتاريخية يعتمدها كثر طبعاً من متابعي فكر هايدغر وحياته العلميين. ففي نهاية المطاف كان للفيلسوف تاريخه العلمي والتعليمي كما حال أي فيلسوف آخر. حتى وإن احتاج الأمر للتذكير بذلك بين الحين والآخر. وهو على سبيل المثال ما فعله الباحث الألماني المعاصر روديغر سافرانسكي في سيرة ضخمة كتبها لهايدغر بعنوان “معلم ألماني: هايدغر وعصره” صدرت قبل سنوات وسرعان ما ترجمت إلى لغات كثيرة بينها العربية (من ترجمة الطبيب السوري عصام سليمان وصدرت في أكثر من 600 صفحة عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”)، في لغة بالغة الأناقة والقوة والدقة يستأهلها على أية حال هذا الكتاب المرجعي الكبير والذي لا يضاهى.

موضوعية مفاجئة

إذا بموضوعية مفاجئة ونزعة تأريخية علمية تفتقر إلى ما يماثلها معظم السير التي وضعت لصاحب “الكينونة والزمن”، وتتكامل إلى حد كبير على أية حال مع كتاب هايدغر العمدة هذا (ولا سيما في الترجمة العربية التي حققها التونسي فتحي المسكيني قبل سنوات)، حاز هايدغر أخيراً على سيرة تنصفه إلى حد كبير واضعة في الميزان ما له وما عليه بعيداً من الأهواء الأيديولوجية والعاطفية التي ما برحت منذ كتاب فاريّاس عن “هايدغر والنازية” يحول حياة مفكر القرن العشرين الكبير إلى لعبة فضائحية ومحور في لعبة الصراعات الفكرية الراهنة. المهم إذاً أن من بين الأمور الحسنة التي استعادها هايدغر في كتاب سافرانسكي إنما كان شبابه نفسه حيث وردت الأجوبة العديدة الأوفى حول السؤال المطروح منذ زمن: هل كانت للمفكر حياة خاصة قبل حنة آرندت و”الكينونة والزمن” والنازية؟ وتحديداً حين كان في ثلاثينيات عمره وقبل ذلك؟ مهما يكن فإن ثمة باحثين ومؤرخين كثراً اشتغلوا على هذا الموضوع دائماً وكان منهم بصورة خاصة فرنسيون وصلوا إلى حد إصدار كتاب جماعي في عام 2010 عنوانه بالتحديد “هايدغر الشاب” شارك فيه عدد من الباحثين المهتمين في جامعات أميركية وفرنسية بهايدغر من ناحية وبالفلسفة الألمانية عموماً من ناحية ثانية.

51q0K0xnDZL.jpg

كتاب “الكينونة والزمن” لمارتن هايدغر (أمازون)

لا جديد مفاجئاً

في حقيقة الأمر أن بحوث هذا الكتاب لم تأت بجديد مفاجئ ولا هي أحدثت بالطبع ثورة في النظرة إلى ما كان عليه هايدغر بخاصة قبل صدور أطروحته الكبرى “الكينونة والزمن”، لكنها تمكنت من أن تلقي على هذا المفكر نظرة شاملة تضع جهوده الأولية في سياقها الصحيح. بل حتى أتت لتقول أن لا شيء في مسار هايدغر الفكري طلع كالعشبة الشيطانية من عدم. ولعل سمعة الكاتب كانت حينها في حاجة إلى مثل هذا التأكيد ولا سيما مكانته كمفكر كان من المنطقي لسياقه أن يوصله إلى تلك “الانتهازية” السياسية والمهنية التي جعلته يقبل بأن يعين في عمادة الجامعة بدفع من النازيين الذين كانوا على أية حال يبحثون عن وجه علمي وفكري كبير يعطيهم شيئاً من “مصداقية” مفترضة. لكن هذا لم يتحقق لهم كما نعرف بل إنه قلل من أهمية هايدغر بخاصة أنه بعدما كان بينه وبين نفسه قد وعد هذه النفس بأن يستفيد من مركزه المرموق كي يخدم قضية العلم ويؤمن نوعاً من الحماية لزملاء له كان النازيون قد فتحوا أعينهم عليهم وبدأوا يترصدونهم للتخلص منهم بحجج مختلفة في مقدمتها كونهم يهوداً، إذا بمؤسس الفينومينولوجية إدموند هوسرل أستاذ هايدغر بالتحديد يقع أول ضحايا التطهير النازي في الجامعة وسط صمت مريب من… هايدغر نفسه.

شباب فيلسوف استثنائي

غير أن ذلك كله سيكون لاحقاً بسنوات على المرحلة التي يتناولها “هايدغر الشاب” وهي بالتحديد المرحلة الواقعة بين 1909 و1926 المرحلة التي كان فيها هايدغر بين العشرين والسابعة والعشرين من العمر. ومن هنا يبدو منطقياً أن ينطلق الكتاب من سؤال سيبدو على الفور بديهياً: هل ترانا نعرف حقاً اليوم تفاصيل المسار المهني لهايدغر؟ وعلى الفور يأتي الجواب قاطعاً: لقد قللنا كثيراً من تعرفنا على مسار فكر هايدغر إلى درجة أن معرفتنا به باتت تبدو وكأنها تقتصر على تعمقنا، كثيراً أو قليلاً في دراسة عمله الرئيسي “الكينونة والزمن”، ما ترك ثغرات واسعة في ذلك التعرف على هايدغر تتعلق بخاصة بارتباط فكره بحياته وما الذي كان عليه هذان عشية ذلك النص الكبير. بالتالي من الواضح أن كتاب “هايدغر الشاب” يأتي ليسد الكثير من تلك الثغرات في تاريخ فكر هايدغر، مقترحاً بشكل خاص الاهتمام ببداية رحلة الفيلسوف، إذ تدعونا راديكالية غير مسبوقة إلى إلقاء نظرة فاحصة على تلك الكتابات الأولى، إنطلاقاً من سؤال تال لا يقل أهمية عن الأول وهو: بعد كل شيء هل يمكن اعتبار فلسفة هايدغر الشاب تمهيداً مسبقاً لما سوف تكون عليه مستقبلاً ظواهره الفينومينولوجية نفسها؟

قارة داخل كتاب

إذاً منذ البداية لدينا هنا تأكيد واضح وهو أن “فلسفة هايدغر لا تبدأ” بـ”الكينونة والزمن”. بل إننا في مفتتح هذا الكتاب نفسه يمكننا وبكل سهولة أن نلتقي نوعاً من تفكير بالغ الثراء سيبدو لاحقاً بالغ الاستقلال في ذاته أيضاً لن يكون من المبالغة القول إنه يشكل وحده، وبحسب ما يرد في مقدمة “هايدغر شاباً” نوعاً من قارة فكرية متكاملة داخل النص. أما الكتاب نفسه فإنه بالتأكيد وبصيغة العمل الجماعي متعدد الأصوات الذي يبدو عليه إنما يعلن وكأن القائمين على العمل قد شاؤوا هنا أن يقدموا فكر الشاب الذي كانه الفيلسوف مضفين عليه كل الأهمية التي يستحقها في مجرى حياته وفكره. مع لفتة خاصة لن تثير بالتالي أية دهشة، إلى كتاباته الأولى التي قد تبدو بالأحرى تجريبية والتي صاغها على مقاعد الدراسات العليا في جامعتي فرايبورغ ومايربورغ حيث درس. والحقيقة أن تلك الكتابات تعطي على الفور انطباعاً مبكراً بقدر كبير من الأصالة يحرك الباحث الشاب، ما يبديه منذ ذلك الزمن المبكر بالغ النضوج وكثير الوعود بل حتى واثقاً من استنتاجاته إلى درجة مدهشة. وينطبق ذلك بشكل خاص على تفسيراته الظاهراتية للحياة اليومية الواقعية ولكن بخاصة من خلال مواجهته الصاخبة مع الكانطية الجديدة. وفي هذا السياق نفسه تبدو لافتة محاولاته الدؤوبة في مجال التأويل، وتعمقه في تناول التحولات التي تواجه المناقشات اللاهوتية. ناهيك بإشاراته العديدة إلى الدين المعاش – هو الذي نشأ كاثوليكياً مؤمناً وممارساً كما نعرف –. والحال أن هذا كله حتى ولو بأشكاله وصيغه الأولية وبدلاً من أن يكتفي بأن يجعل من هذا الكتاب مجرد صدى بإرهاصات الفكر الذي سيكون فكر هايدغر ولا سيما منذ “الكينونة والزمن”، يبدو كمسار واضح ومتأكد من نفسه في مجال “الكشف عن معنى وأهمية التجربة برمتها”.

السؤال الغائب!

مهما يكن فإن الكتاب لا يفوته أن يلفتنا إلى انبهار مارتن هايدغر ومنذ شبابه المبكر بأرسطو والقديس أوغسطين والقديس بولس ودنيس سكوت وصولاً حتى إلى ديلثاي وإلى مارتن لوثر “رغم كل شيء!”، كان انبهاراً فعالاً أي دفعه إلى التعمق في قراءة أعمالهم وأحياناً على ضوء نظرة لم تخل من نقد وربما على ضوء تربيته الكنسية. ويؤكد الكتاب أن تلك كانت في نهاية المطاف، التأثرات التي مارست على هايدغر تأثيرات لا تنضب وصنعته فكرياً وفلسفياً. ولكن يبقى هنا سؤال أخير مشاكس لا بد من طرحه وربما كان هايدغر يطرحه على نفسه خلال المراحل الأخيرة من حياته: فهل تراها صنعته حياتياً أيضاً؟ تلك على أية حال معضلة ليس هنا مكان طرحها.

التعليقات معطلة.