هل لا زال هناك حاجة للفلسفة؟

1

د. عمر الحمادي

عندما جاء أوغست كونت إلى الدنيا ونظر لتاريخ الفكر على أنه يشكل ثلاث حقب، الحقبة اللاهوتية، ثم الحقبة الميتافيزيقية، ثم الحقبة الوضعية، كان مشروعه يتضمن ما هو أعمق من التنظير للعلم الحديث. 

الإنسان لا يستطيع أن ينفك عن التفلسف، وحتى إذا أراد أن يدحض الفلسفة ويُظهر بطلانها، لا بد له أن يتفلسف للوصول إلى هذه الغاية لقد خلُص كونت إلى أن الفكر البشري لن يتمكن أبداً مهما طالت الأحقاب، من أن يكشف عن حقائق الأشياء وطبائعها الداخلية وأسبابها النهائية وغاياتها القصوى.

كل ما يحق للفكر البشري أن يحلم به هو أن يكشف عن ظواهر الأشياء وأن يكشف عن علاقاتها والقوانين التي تحكم تلك العلاقات. هذا هو عينه ما قرره إيمانويل كنْت في “نقد العقل الخالص”. لكن كونت نحا منحى آخر غير الذي نحاه كنْت، ولم شيئاً.

لقد قرر كونت أن هذه الحالة الوضعية هي آخر المحطات. الوضعي عند كونت يرادف الواقعي أو الفعلي المستقل عن كل معنى غيبي.

إنه يعني الحقيقي والتجريبي، في مقابلة ومضادة لكل ما هو ميتافيزيقي وتأملي وخيالي ووهمي. إنها الروح الجديدة، في القرن التاسع عشر، التي تتميز بارتباطها الدائم بالبحث الذي يدور في مدار ما يدركه العقل وتحكمه التجربة.

العلم الوضعي لم يعد منشغلاً بالبحث عن المبادئ الأولى والغايات النهائية كما في لغة أرسطو وديكارت، وإنما هي فلسفة المستقبل بحسب تعبير فويرباخ، كل ما يشغله هو الظواهر الحسية الماثلة أمامه وبكيفية ربط بعضها ببعضها الآخر من خلال علاقات. لقد كان العلم الحديث فخوراً بنفسه لأبعد مدى في ذلك الزمان، وقد ظن فعلاً أنه سيحل كل المشاكل. ظنٌ اختار العلم بدلاَ عنه التواضع، في أيامنا هذه.

لقد كانت روحاً جديدة تقف على الضد من كل ما هو معياري أو قيمي، فالمعياري مشغول بما ينبغي أن يكون عليه الشيء استرشاداً بنظرة غائية أو مجموعة من القيم الأخلاقية، أما الوضعي فلا شغل له إلا العمل على الواقع كما هو بدون رتوش ولا أمل ولا تأمل. أما القضايا الميتافيزيقية التي عنيت بها الفلسفة القديمة أشد عناية، فلم يعد لها قيمة في زمن ازدهار الوضعية، إنها قضايا ليست جديرة بالاهتمام من وجهة نظر السيد كونت.

في مطلع القرن العشرين برزت “حلقة فيينا” الفلسفية ومشروعها الذي يُعرف باسم المنطقية الوضعية وهي لا تختلف كثيراً عن وضعية كونت واختلافاتها لا تتجاوز أن كونت يقول إن قضايا الميتافيزيقيا قضايا ليست بذات بال ولا يجدر الانشغال بها، بينما الوضعية المنطقية تقول إن قضايا الميتافيزيقا فارعة من أي معنى يمكن إدراكه، ما هي إلا مشاعر أو رغبات.

هذا معناه أن الفلسفة نفسها لم يعد لها حاجة، وأن المعرفة ككل يجب أن تُترك للعلم التجريبي الحديث، وإن كان الوضعانيون سيقبلون بوجود للفلسفة، فهو وجود لا يُجاوز إثارة المشكلات ليقوم العلم التجريبي بحلها، فقط لا غير.

لو أنك استوقفت أي فيلسوف وضعي، من الأوائل أو من المتأخرين وسألته: من أين أتيت بكل هذا التنظير؟ هل برهنت لك التجربة العلمية على أن قضايا الميتافيزيقا قضايا غير ذات بال أو فارغة من المعنى، برهاناً ناصعاً لا مجال للشك فيه؟ لا شك في أن أي عالم تجريبي وكل فيلسوف يُدرك أن هذه البرهنة لم تحدث قط.

الفلسفة هي التأمل العقلي، ولو أنك تأملت قليلاً في هذه التقرير الذي تصدر به الوضعانيون المشهد لحقبة من الزمن، لوجدت أنه هو نفسه لم يكن سوى فلسفة، رغم أن من رفع رايته زعم أنه علمي وليس بفلسفي، بالمعنى القديم.

الإنسان لا يستطيع أن ينفك عن التفلسف، وحتى إذا أراد أن يدحض الفلسفة ويُظهر بطلانها، لا بد له أن يتفلسف للوصول إلى هذه الغاية. نبوءة أرسطو هذه قد صدقت على الوضعيين بعد ألفي سنة.

لهذا السبب، بقيت الفلسفة التأملية الميتافيزيقية شامخة إلى الآن، ولا زال الناس يهتمون بها ويسألون عنها ويتدارسونها، بينما انتقلت المنطقية الوضعية، وهي فلسفة، لتأخذ مكانها على الرف، ولم يعد أحد يسمع عنها شيئاً، بل لا يعرفها إلا المختصون في الفلسفة أو المهتمون بتاريخ العلم.

 

التعليقات معطلة.